تاريخ السفارات الكاذبة 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين وبعد،

فهذه محاضرة حول تاريخ السفارات الكاذبة اقتضى الرأي أن أرتِّبها وأطبعها تعميمًا للفائدة، وقد توخَّيتُ فيما دوَّنته الإيجاز رعايةً لوقت القارئ الكريم.

وأرى من المناسب تمهيدًا لهذه المدوَّنة أن أعطي تعريفًا موجزًا لمعنى السفارة والنيابة الخاصة في عصر الغيبة الصغرى والتي امتدت قرابة السبعين سنة ابتداء من سنة ستين ومائتين للهجرة وانتهاء بموت السفير الرابع سنة تسعة وعشرين وثلاثمائة للهجرة أي إنها بدأت برحيل الإمام العسكري (ع) وانتهت بموت السمري السفير الرابع للإمام المهدي (عج).

فالنيابة الخاصة أو السفارة منصب ديني يقتضي الاضطلاع بدور التمثيل والوساطة بين الإمام المهدي (عج) المكلَّف بالغيبة وبين شيعته فيكون اتصال الشيعة بالإمام (عج) في عصر الغيبة الصغرى عن طريق من يكون له منصب السفارة، وهذا المنصب يتم بواسطة التعيين من قبل الإمام نفسه، فليس لأحد أن يدَّعي هذا الموقع الديني دون أن يكون الإمام (عج) قد نصَّ عليه باسمه وهويته، فالسفارة اصطفاء خاص من قبل الإمام لأحد شيعته يتمُّ التعرُّف عليه بواسطة التنصيص على الاسم والهوية بمستوىً يمتنع معه اللبس والتشويش في الوسط الشيعي.

ثم إن الغرض من جعل السفارة والنيابة الخاصة هو التمهيد للغيبة التامة، فلأن الشيعة قد اعتادت على امتداد ما يزيد على قرنين من الزمن أن يكون الإمام المعصوم (عج) بين ظهرانيهم يلجأون إليه في مسائلهم وقضاياهم وحوائجهم وجميع ما يتصل بشؤونهم العامة والخاصة، لهذا كان غيابه التام عنهم قد يفضي إلى ضياعهم وتبعثرهم ووقوعهم في الحيرة أو الافتتان عن مذهبهم، فكان لا بدَّ من التمهيد للغيبة التامة، فكانت الغيبة الصغرى والتي كان يتصل فيها الإمام بشيعته عن طريق السفراء.

فكانت تصل إليه عن طريق سفرائه رسائلهم وتُرفع إليه حوائجهم وكان يُبادر في أحيان كثيرة إلى بيان ما يلزمهم فعله في ما يتصل بشئونهم العامة أو الخاصة، وكان يؤكِّد على ما بيَّنه آباؤه الطاهرون من أنَّ ثمة غيبةً سوف تلي هذه الغيبة ينقطع فيها عن الاتصال بهم، فيكون الملجأ حينئذٍ هو ما ثبت صدوره عنه وعن آبائه (ع) من روايات، وإنَّه ليس لأحدٍ من شيعته التشكيك في ما رواه الثقات عن آبائه الطاهرين، وإنَّ هؤلاء الثقات العارفين بما ورد عن المعصومين والقادرين على فهم ما ورد عنهم هم حجته على شيعته حينذاك وإنه حجة الله تعالى عليهم.

وبذلك يكون الإمام قد مهَّد لفصلٍ جديد يكون فيه الإمام في غياب تام عن شيعته، ويكون فيه المضطلع بدور المرجعية الدينية -والتي هي ثابتة للمعصوم بالأصالة- هم الفقهاء العارفون بما ورد عن المعصومين (ع) والقادرون على فهم ما ورد عنهم، وهذا هو معنى النيابة العامة في عصر الغيبة الكبرى.

فبعد أن كانت النيابة في عصر الغيبة الصغرى متمحِّضة في مَن يتم تعيينهم من قبل الإمام بأسمائهم تكون النيابة في عصر الغيبة الكبرى للفقهاء الواجدين للشرائط التي تمَّ رسمها من قبل الأئمة المعصومين (ع)، فكلُّ من توفَّر على هذه الشرائط صحَّ الرجوع إليه من قبل الشيعة لغرض التعرُّف على أحكام الله جلَّ وعلا، وكان له ما كان للإمام من صلاحية الفصل بين الخصومات والبت في المسائل القضائية وكانت له الولاية على الأمور الحسبية على الخلاف في السعة والضيق، وهذا هو معنى النيابة العامة للمعصوم (عج) فهي نيابة لكونها منصبًا مجعولاً من قبل الإمام (عج) يتأهَّل الفقيه بها للاضطلاع ببعض الأدوار ا لتي كانت للإمام في عصر الظهور، وهي عامة نظرًا لعدم تحديد هوية المتأهل لهذا المنصب فالمدار في تحقق الأهلية لهذا المنصب هو الصفات دون الاسم والهوية.

ومع اتضاح الفرق بين النيابة الخاصة والنيابة العامة يتَّضح أنَّ النيابة الخاصة لم تكن إلا في عصر الغيبة الصغرى، وبانتهاء الغيبةِ الصُّغرى انقطعت النيابة الخاصة، وذلك لوقوع الغيبة التامة والتي نصَّت الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) على أن الإمام المهدي (عج) ينقطع فيها عن شيعته فلا يعلم أحد منهم بموقعه أو شخصه حتى خواصّهم.

مقتضيات النيابة الخاصة:

بعد اتضاح معنى النيابة الخاصة أو السفارة أو الوكالة الخاصة وأنه منصب ديني يتم جعله من قبل الإمام (عج) لأحد شيعته، وبه يتأهل المجعول له هذا المنصب لدور التمثيل والوساطة في عصر الغيبة الصغرى بين الإمام وبين شيعته نظرًا لاقتضاء الإرادة الإلهية أن يختفي الإمام بشخصه عن الناس، بعد اتضاح ذلك لا بدَّ من الإشارة إلى ما يقتضيه طبع هذا المنصب في عصر الغيبة الصغرى فهو يقتضي:

أولاً: أن يكون نائبه الخاص عارفًا بشخص الإمام وسماته.

ثانيًا: أن يكون لقاؤه به كثيرًا ومنتظمًا، وذلك لغرض التعرُّف منه على ما يلزمه إيصاله لشيعته من إرشادات، ولكي يستلزم منه ما يُجيب به على استفتاءات الشيعة ومكاتباتهم في مختلف شؤونهم.

ثالثًا: أن يكون ما يتَّخذه من مواقف في مختلف القضايا وما يُذيعه من قول في الشؤون العقائدية أو الشرعية حجة على عموم شيعة آل محمد (ص)، وذلك نظرًا لكونه الممثل للإمام (عج)، ولأنَّ الإمام (عج) نزَّل فعل السفير وقوله منزلة فعله وقوله كما يستفاد ذلك من قول الإمام العسكري في عثمان بن سعيد "وثقتي في المحيا والممات، فما قاله لكم فعني يقوله وما أدّى إليكم فعني يؤديه"، وكذلك ما أفاده أبو جعفر العمري في أبي القاسم بن روح "فقد أُمرت أن أجعله في موضعي فارجعوا إليه وعوِّلوا في أموركم عليه"، وفي نص آخر "فارجعوا إليه أموركم وعوِّلوا عليه في مهماتكم، فبذلك أمرت وقد بلغت".

وأفاد الشيخ الحسين بن روح بعد أن أجاب على مسألة عقائدية، فتوهَّم محمد بن إبراهيم بن إسحاق أن الحسين إنما أجاب عن ذلك اجتهادًا ولم يكن قد تلقَّى ذلك عن الإمام (عج) فقال له الحسين بن روح ابتداءً "يا محمد بن إبراهيم لأنْ أخر من السماء أو تهوي بي الريح في مكان سحيق أحبُّ إليَّ من أن أقول في دين الله عزَّ وجلَّ برأيي أو من عند نفسي، بل ذلك عن الأصل ومسموع من الحجة صلوات الله وسلامه عليه".

رابعًا: أن يكون السفير في أعلى درجات التقوى والورع والحرص على دين الله والقدرة على التكتم والمحاذرة، فلا يليق بهذا المنصب مَن كان في دينه رقَّةٌ أو كان ممن تستهويه الدنيا أو تعبث بمشاعره الرغبات أو يكون ممن يُضعفه الضغط أو الإرهاب أو تستزلُّه الطوارئ أو تستدرجه تصاريفُ الظروف وتقلبات الأحوال.

فلأن السفير يكون في موقع الممثل للإمام (عج) لذلك لابدَّ وأن يكون جديرًا بحماية المخطط الإلهي الذي أنيط بالإمام (عج)، فالغيبة الصغرى والنيابة الخاصة كانت حلقةً ضمن سلسلة منتظمة واقعة في صراط التخطيط الإلهي الرامي لإيصال البشرية إلى مستوى الكمال الإنساني، فهو قد بدأ حين ابتدأ خلق الإنسان، فكان تاريخ الرسالات مساوقًا لمبدأ خلق الإنسان، ولا ينتهي حتى يُظهر دينه على الدين كله يوم الفتح العالمي الموعود والذي أنيط بالإمام المهدي (عج).

فإذا كان هذا هو شأن النيابة الخاصة فلا بدَّ من صيانتها من الانحراف، وذلك يقتضي اصطفاء من كان واجدًا لأعلى درجات التقوى والورع والوعي للدور الذي أنيط به وخطورته.

ولا بدَّ وأن يكون له من التميُّز في الصبر والتجلُّد ما يصحُّ به الاستيثاق من جدارته لهذا المنصب، وإلا كان المخطط الإلهي في معرض الانتقاص.

ونذكر لذلك شاهداً رواه الشيخ في الغيبة بسندٍ معتبرٍ انّ أبا سهل النوبختي سُئل فقيل له: كيف صار هذا الامر إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح دونك؟.

فقال: فيما قال: أنا رجل ألقي الخصوم وأناظرهم، ولو علمت بمكانه كما علم أبو القاسم وضغطتني الظروف (على مكانه) فلعلِّي كنتُ أدلُّ على مكانه، وأما أبو القاسم فلو كان الإمام (عج) تحت ذيله وقُرِّض بالمقاريض ما كشف الذيل عنه.

هذا وقد اختار الإمام (عج) لهذا المنصب رجالاً أربعة لا يرتاب أحد في تميُّزهم وجلالتهم وعلوِّ شأنهم، وقد انقادت إليهم الطائفة على اختلاف طبقاتها وحواضرها بعد التثبت من اصطفاء الإمام لهم دون سواهم وهؤلاء الأربعة هم:

أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري الملقب بالسمَّان، وقد كان وكيلاً قبل ذلك للإمامين الهادي والعسكري (ع) وبعد أن رحل إلى ربه كانت النيابة الخاصة لأبي جعفر محمد بن عثمان بن سعيد العمري ثم آلت إلى أبي القاسم الحسين بن روح النوبختي وبعد أن رحل إلى ربِّه صارت النيابة الخاصة إلى أبي الحسن علي بن محمد السمري وبموته انقطعت النيابة الخاصة وانتهى عصر الغيبة الصغرى ووقعت الغيبة التامة المعبَّر عنها بالغيبة الكبرى بعد أن أعلن الإمام على يد السمري أن الغيبة التامة تبدأ بموت السمري وأفاد أنه ليس لأحد بعدها أن يدَّعي النيابة الخاصة وأن كلَّ من ادّعى ذلك فهو كاذب مفترٍ.

تاريخ السفارات الكاذبة

أرَّخ الشيخ أبو جعفر الطوسي شيخ الطائفة للسفارة المنحرفة في كتابه المعروف بكتاب الغيبة، وأفاد أنَّ رجالاً ممن عاصروا زمان الغيبة الصغرى وبدايات الغيبة الكبرى قد انتحلوا هذا الموقع الديني كذبًا وافتراءً وذكر منهم ثمانية:

1- أبو محمد المعروف بالشريعي.

2- محمد بن نصير النميري الفهري.

3- أحمد بن هلال الكرخي العبرتائي.

4- أبو طاهر محمد بن علي بلال البلالي.

5- الحسين بن منصور الحلاج.

6- محمد بن علي الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقر.

7- أبو بكر محمد بن أحمد بن عثمان المعروف بالبغدادي ابن أخي أبي جعفر السفير الثاني، فيكون السفير الأول عثمان بن سعيد جده لأبيه.

8- أبو دلف محمد بن مظفر الكاتب(1).

وذكر صاحب البحار اثنين آخرين لم يؤرِّخ لهما الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة، وهما الباقطاني وإسحاق الأحمر.

ذكر أنَّهما كانا قد ادعيا النيابة في زمن أبي جعفر محمد بن عثمان العمري السفير الثاني.

نقل ذلك عن محمد بن جرير الطبري صاحب كتاب دلائل الإمامة(2).

وكلُّ هؤلاء ادعوا النيابة والبابية في عصر الغيبة الصغرى ما عدا أبا دلف محمد بن المظفر، فقد ادعاها بعد موت الشيخعلي بن محمد السمري السفير الرابع -أي بعد انقضاء عصر الغيبة الصغرى- ولم يجترأ أحد بعده على انتحال هذه الدعوى إلى أن ظهرت البابية في إيران في القرن الثالث عشر الهجري(3).

ومنشأ الامتناع عن انتحال منصب السفارة في زمن الغيبة الكبرى طيلة قرون من الزمن -رغم أن الدواعي قاضية بذلك نظرًا لما يترتب على هذا الموقع من أثار شخصية- هو أنَّ انقطاع السفارة بموت السفير الرابع يُعدُّ من ضروريات المذهب، لذلك لم يكن أحد من الباحثين عن المواقع الدينية يجترأ على انتحال هذا الموقع؛ خشية أن يُفتضح فيقع في نقيض ما كان ينتظره من مقامٍ ديني، هذا مضافًا إلى مناشئ أخرى قد نستعرضها فيما بعد.

كيف تثبت السفارة الصادقة عن الإمام؟

كيف عالج الإمام الحجة (عج) وعلماء الطائفة قضية السفارات الكاذبة؟

ثمة وسائل اعتُمدت لذلك نستعرضها بنحو الإيجاز إلا انه وقبل ذلك نرى من المناسب الإشارة إلى أمرٍ، وهو أنَّ إثبات السفارة الصادقة في عصر الغيبة الصغرى كان يعتمد طريقين، كلُّ واحدٍ منهما يصلح وحده لإثبات دعوى السفارة بنظر العقلاء، إلا أن المتعارف بين علماء الطائفة آنذاك هو المطالبة بهما معًا احترازًا للتثبت في الأمر نظرًا لخطورته، هذا مضافًا إلى لزوم أن يكون المدَّعي للسفارة معروفًا في أوساط الطائفة بالصدق والصلاح والتميُّز في التقوى والورع.

الطريق الأول: هو النص الثابت صدوره عن الإمام المعصوم (عج).

الطريق الثاني: هو ظهور الكرامات الخارقة للعادة ولناموس الطبيعة على يد مَن انتسب لهذا المنصب.

فما لم يكن المنتسب لهذا المنصب متوفرًا على هاتين الحجَّتين فإن دعواه لا تُسمع ولا تحظى بالقبول.

النص الثابت صدوره عن الإمام المعصوم (عج)

الطريق الأول: ولتوثيق ذلك نشير إلى بعض النصوص التي تمسَّكت بها الطائفة لإثبات أنَّ سفارة السفراء الأربعة كانت صادقة، ونوثِّق الطريق الثاني بالإشارة إلى بعض النماذج من الكرامات التي ظهرت على يد كلِّ واحد من السفراء الأربعة قدس الله أسرارهم.

أما النصوص الواردة عن المعصوم (عج) والمتضمنة لإثبات سفارة السفراء الأربعة رضوان الله تعالى عليهم فهي كثيرة نشير إلى بعضها:

النص الأول: ورد عن الإمامين اهادي والعسكري (ع)، وقد اشتمل هذا النص على بيان وثاقة أبي عمرو عثمان بن سعيد العمري، وأنَّه الأمين وأنَّ ما يؤديه فهو إنما يؤديه عن الإمامين الهادي والعسكري (ع) وانَّ هذه السمة ثابتة له حتى بعد وفاة الإمام العسكري (ع).

ونص الحديث هو ما يلي: روى الشيخ الطوسي بسند معتبر عن أحمد بن إسحاق القمي وهو من وجوه الطائفة، قال: دخلت على أبي الحسن علي بن محمد صلوات الله عليه في يوم من الأيام فقلت: يا سيدي أنا أغيب وأشهد ولا يتهيأ لي الوصول إليك إذا شهدت في كل وقت، فقول مَن نقبل؟ وأمرُ مَن نمتثل؟ فقال لي صلوات الله عليه: "هذا أبو عمرو الثقة الأمين، ما قاله لكم فعنِّي يقوله، وما أدَّاه إليكم فعنِّي يؤديه".

فلمَّا مضى أبو الحسن (ع) وصلت إلى أبي محمَّد ابنه الحسن العسكري (ع) ذات يوم فقلت له (ع) مثل قولي لأبيه، فقال: "هذا أبو عمرو الثقة الأمين ثقة الماضي، وثقتي في المحيا والممات، فما قاله لكم فعنِّي يقوله وما أدى إليكم فعنِّي يؤديه"(4).

قال أبو محمَّد هارون: قال أبو علي: قال أبو العبّاس الحميري: فكنّا كثيرًا ما نتذاكر هذا القول ونتواصف جلالةَ محلِّ أبي عمرو(5).

اشتمل هذا النص على التصريح بجعل عثمان بن سعيد نائبًا للإمامين الهادي والعسكري (ع).

وإنَّه ليس مجرَّد رجلاً صادقًا ثقةً في النقل؛ وذلك لأنَّ أحمد بن إسحاق سأل الإمام الهادي وكذلك الإمام العسكري (ع) عمَّن يُمتثل أمره حيث قال: "وأمر من نمتثل؟" وكان جواب الإمام الهادي (ع) أنَّ ما يؤديه أبو عمرو إنَّما يؤديه عنه، وكذلك أجاب الإمام العسكري (ع) وأضاف أنه ثقة الماضي والحاضر وثقته في المحيا وثقته في الممات، وذلك تصريح بأنّ هذا الموقع يظل ثابتًا له بعد وفاة الإمام العسكري (ع) أي في عصر الغيبة الصغرى.

ثمَّ أنَّ سؤال أحمد بن إسحاق لم يكن سؤالاً عن وظيفته الشخصية حيث قال: "وأمر مَن نمتثل؟" وهو تعبير عن أنَّه سؤال عن وظيفة الشيعة في ظرف عدم القدرة على الوصول للإمام (عج)، على أنَّ الجواب كان صريحًا في جعل الحجيَّة لكلّ أمر أو سلوك يصدر عن أبي عمرو حيث أنَّ مفاد جوابه أنَّ ما يصدر عن أبي عمرو إنَّما يؤديه عن الإمام (عج) وهذا يقتضي عدم اختصاص ذلك بالسائل.

فالرواية صريحة في ثبوت النيابة عن الأئمة الثلاثة لأبي عمرو عثمان بن سعيد العمري (رحمه الله).

النص الثاني: رواه الشيخ الطوسي بسندٍّ معتبر في حديث طويل مشهور عن جماعة فيهم علي بن بلال قال: اجتمعنا إلى أبي محمَّد الحسن بن علي نسأله عمَّن بعده -وبعد أن أراهم الإمام الحجة (عج)- قال: "هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم أطيعوه ولا تتفرَّقوا فتهلكوا في أديانكم، ألا وإنّكم لا ترونه من بعد يومكم هذا حتى يتم له عمر، فاقبلوا من عثمان ما يقوله، وانتهوا إلى أمره واقبلوا قوله فهو خليفة إمامكم والأمر إليه .."(6).

وهذا النص صريح في جعل النيابة لعثمان بن سعيد العمري عن الإمام صاحب الزمان (عج).

النصّ الثالث: ما رواه الشيخ الطوسي بسنده عن محمَّد بن إسماعيل وعلي بن عبد الله الحسنيين قالا: دخلنا على أبي محمّد الحسن (ع) بسرّ من رأى -إلى أن قالا-: ثمَّ قلنا بأجمعنا: يا سيدنا والله إنَّ عثمان لمن خيار شيعتك، وقد زدتنا علمًا بموضعه من خدمتك وأنه وكيلك وثقتك على مال الله تعالى، قال (ع): "نعم، واشهدوا على أنَّ عثمان بن سعيد العمري وكيلي وأنَّ ابنه محمّدًا وكيل ابني مهديِّكم"(7).

وهذا النصّ صريح في ثبوت منصب الوكالة والنيابة عن الإمام صاحب الزمان (عج) لمحمّد بن عثمان العمري.

النص الرابع: رواه الشيخ الطوسي بسندٍ معتبرٍ عن عبد الله بن جعفر الحميري قال: وأخبرني أبو علي أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن (ع) قال سألته فقلت له: "لمن أُعامل وعمَّن آخذ، وقول من أقبل؟" فقال له: "العمري ثقتي فما أدّى إليك فعنِّي يؤدي، وما قال لك فعنِّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنه الثقة المأمون".

قال وأخبرني أبو علي أنه سأل أبا محمد الحسن بن علي (ع) عن مثل ذلك فقال له: "العمري وابنه ثقتان، فما أديا إليك عني فعني يؤديان وما قالا لك فعني يقولان فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان"(8).

النص الخامس: رواه الشيخ الطوسي بسنده عن جعفر بن أحمد بن متيل قال: لما حضرتْ أبا جعفر محمد بن عثمان العمري (رض) الوفاة كنتُ جالسًا عند رأسه أسأله وأُحدِّثه وأبو القاسم بن روح عند رجليه، فالتفت إليَّ ثم قال: "أُمرت انْ أُوصي إلى أبي القاسم الحسين بن روح"، قال: فقمت من عند رأسه وأخذت بيدِ أبي القاسم وأجلسته في مكاني وتحوَّلتُ إلى عند رجليه.

روى هذا النص الشيخ بسندٍ آخر عن الصفار والحسين بن أحمد بن إدريس (رض)، وذكرا أنهما كانا حاضرين، وقد شهدا ذلك(9).

النص السادس: رواه الشيخ الطوسي بسندٍ معتبرٍ عن أبي علي محمد بن همام (رض) وأرضاه أن أبا جعفر محمد بن عثمان العمري (قدس الله روحه) جمعنا قبل موته وكنا وجوه الشيعة وشيوخها، فقال لنا: "ان حدث عليَّ حدث الموت فالأمر إلى أبي القاسم الحسين بن روح النوبختي، فقد أُمرت أن أجعله في موضعي فارجعوا إليه وعوِّلوا في أموركم عليه"(10).

النص السابع: رواه الشيخ الطوسي بسندٍ معتبرٍ عن أبي إبراهيم جعفر بن أحمد النوبختي قال: قال لي أبي أحمد بن إبراهيم وعمي أبو جعفر عبد الله بن إبراهيم وجماعة من أهلنا يعني بني نوبخت أنَّ أبا جعفر العمري لما اشتدَّت حاله اجتمع جماعة من وجوه الشيعة منهم أبو علي بن همام، وأبو عبد الله محمد الكاتب، وأبو عبد الله الباقطاني، وأبو سهل إسماعيل بن علي النوبختي، وأبو عبد الله بن الوجناء، وغيرهم من الوجوه والأكابر، فرحلوا على أبي جعفر (رض) فقالوا له: "إنْ حدث أمر فمن يكون مكانك؟" فقال لهم: "هذا أبو القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختي القائم مقامي والسفير بينكم وبين صاحب الأمر (عج) والوكيل له والثقة الامين فارجعوا إليه في أموركم وعوِّلوا عليه في مهماتكم فبذلك أُمرت وقد بلغت"(11).

فهذه نصوص ثلاثة رواها الثقاة من وجهاء الشيعة صريحة في جعل النيابة والسفارة لأبي القاسم بن روح النوبختي بعد أبي جعفر محمد بن عثمان العمري، وقد نصَّ فيها أبو جعفر محمد بن عثمان على أن ذلك بأمرٍ من الإمام صاحب الزمان (عج).

النص الثامن: رواه الشيخ الطوسي بسنده عن غيان بن أسيد قال: ولد الخلف المهدي صلوات الله عليه يوم الجمعة إلى ان قال: فلما مات عثمان بن سعيد أوصى إلى أبي جعفر محمد بن عثمان (رحمه الله)، وأوصى أبو جعفر إلى أبي القاسم الحسين بن روح (رض)، وأوصى أبو القاسم إلى أبي الحسن علي بن محمد السمري (رض) فلما حضرت السمري الوفاة سئل أنْ يُوصي فقال: "لله أمر هو بالغه".

فالغيبة التامة هي التي وقعت بعد مضي السمري (رض)(12).

النص التاسع: رواه الشيخ الطوسي بسندٍ معتبرٍ عن عبد الله بن محمد بن أحمد الصفوائي قال: أوصى الشيخ أبو القاسم (رض) إلى أبي الحسن علي بن محمد السمري (رض) فقام بما كان إلى أبي القاسم(13).

فلما حضرته الوفاة حضرت الشيعة عنده وسألته عن الموكَّل بعده وعمَّن يقوم مقامه فلم يُظهر شيئًا من ذلك، وذكر انه لم يُؤمر بأن يُوصي إلى أحدٍ بعده في هذا الشأن.

فالنص الثامن والتاسع صريحان في أنَّ نيابة السمري كانت بوصية من أبي القاسم الحسين بن روح، وذلك تعبير واضح عن أن ذلك إنما كان بأمر الإمام (عج) إذ أنَّ تعيين النائب عن الحجة (عج) إنما يكون بأمرٍ منه كما اتضح ذلك مما تقدم من النصوص السابقة ونصوص أخرى لم نذكرها رعاية للإيجاز.

هذا مضافًا إلى ان علماء الطائفة متسالمون بنحو التسالم القطعي على انَّ هؤلاء الأربعة كانوا سفراء للإمام الحجة (عج) في عصر الغيبة الصغرى بأمرٍ من الإمام صاحب العصر والزمان (عج).

يقول الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج: "وأما الأبواب المرضيون والسفراء الممدوحون في زمان الغيبة فأولهم الشيخ الموثوق به أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري نصَّبه أولاً أبو الحسن علي بن محمد العسكري ثم ابنه أبو محمد الحسن (ع) فتولَّى القيام بأمورهما حال حياتهما ثم بعد ذلك قام بأمر صاحب الزمان (عج) وكانت توقيعاته وجواب المسائل تخرج على يديه، فلما مضى لسبيله قام ابنه أبو جعفر محمد بن عثمان مقامه وناب منابه في جميع ذلك، فلما مضى هو قام بذلك أبو القاسم حسين بن روح من بني نوبخت، فلما مضى هو قام مقامه أبو الحسن علي بن محمد السمري، ولم يقم أحد منهم بذلك إلا بنصٍ عليه من قبل صاحب الأمر (عج) ونصب صاحبه الذي تقدم عليه، ولم تقبل الشيعة قولهم إلا بعد ظهور آية معجزة تظهر على يد كل واحدٍ منهم من قبل صاحب الأمر (عج) تدلُّ على صدق مقالتهم وصحة بابيَّتهم، فلما حان سفر أبي الحسن السمري من الدنيا وقرب أجله قيل له إلى من توصي؟ فأخرج إليهم توقيعًا .. ورد فيه ".. فاجمع أمرك ولا توصِ إلى أحدٍ فيقوم مقامك فقد وقعت الغيبة التامة فلا ظهور إلا بعد إذن الله تعالى ذكره .. وسيأتي إلى شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر .."(14).

ظهور الكرامات على يد السفير

الطريق الثاني: الذي كانت تعتمده الشيعة منضمًا إلى الطريق الأول لغرض التثبُّت من صدق المنتسب لمنصب السفارة هو -كما ذكرنا- ظهور الكرامات من قبل صاحب الزمان (عج) على يد كل واحدٍ منهم.

وقد ظهرت على أيدي السفراء الأربعة الكثير من ذلك كما أفاد الشيخ الطبرسي في كتاب تاج المواليد حيث أفاد: "ثم تولى -أبو عمرو عثمان بن سعيد- البابية من قبل صاحب الأمر (عج) وظهرت المعجزات الكثيرة على يديه من قبله (عج) وعلى أيدي الباقين من السفراء (رضي الله عنهم)"(15).

وقال الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة: "وقد نُقلتْ عنه -محمد بن عثمان العمري- دلائل كثيرة ومعجزات الإمام ظهرت على يده وأمور أخبرهم بها عنه زادتهم في هذا الأمر بصيرة، هي مشهورة عند الشيعة .."(16).

نماذج من الكرامات التي ظهرت على يد السفراء الأربعة (رضي الله عنهم)

وسنستعرض في المقام نماذج لذلك توثيقًا لما ذكرناه:

النموذج الأول: ما رواه السيد ابن طاووس بإسناده إلى الشيخ أبى جعفر محمد ابن جرير الطبري باسناد يرفعه إلى احمد الدينوري الملقب بأستار قال: انصرفت من أردبيل إلى الدينور أريد الحج، وذلك بعد مضي أبى محمد الحسن بن علي عليهم السلام بسنة أو سنتين، وكان الناس في حيرة فاستبشر أهل الدينور بموافاتي، واجتمع الشيعة عندي وقالوا: اجتمع عندنا ستة عشر ألف دينار من مال الموالي، ونحن نحتاج أن تحملها معك وتسلمها لمن يجب تسليمها إليه، فقلت: يا قوم هذه أيام حيرة ولا يدرى الباب في هذا الوقت، فقالوا: انا اخترناك لحمل هذا المال لما نعرف من ثقتك وكرمك فاعمل على انْ لا تًُخرجه من يدك إلا بحجة، فحملوا إليَّ ذلك المال وخرجتُ فلما وافيت قرمسين كان أحمد بن الحسن بن الحسن مقيما بها فانصرفت إليه مسلِّما فلما رآني استبشر ثم أعطاني ألف دينار في كيس وتخوت ثياب ألوان معكمة لم أعرف ما فيها، ثم قال: احمل هذا معك ولا تُخرجه من يدك إلا بحجة، فقضبت المال والتخوت بما فيها من الثياب، فلما وردت بغداد لم تكن لي همة غير البحث عمن أُشير إليه بالنيابة فقيل أن ههنا رجلا يعرف بالباقطاني يدعي بالنيابة، وآخر يعرف بإسحاق الأحمر يدَّعي أيضا بالنيابة، وآخر يُدعى بابى جعفر العمرى يدعي أيضا بالنيابة، فبدأت بالباقطاني وصرت إليه فوجدته شيخا مهيبا له مروة ظاهرة، وفرس عربي، وغلمان كثير، وتجتمع إليه الناس فيتناظرون فدخلت إليه وسلمت عليه فرحّب وقرّب وسرّ وبرّ، فأطلت القعود إلى أن خرج أكثر الناس، فسألني عن أربتي فعرفته انى رجل من الدينور وافيت ومعي شئ من المال احتاج إلى أن أسلمه فقال: أحمله، فقلت: أريد حجة، قال: تعود إلي في غد فعدت إليه من الغد فلم يأت بحجة، وعدت في اليوم الثالث فلم يأت، فصرت إلى إسحاق الأحمر فوجدته شابا نظيفا منزله أكبر من منزل الباقطاني وفرسه ولباسه ومروته اسرى، وغلمانه أكثر، ويجتمع عنده أكثر مما يجتمع عند الباقطاني، فدخلت وسلمت فرحب وقرب فصبرت إلى أن خف الناس فسألني عن حاجتي فقلت له كما قلت للباقطاني، ووعدني بالحجة فعدت إليه ثمانية أيام فلم يأت بحجة، فصرت إلى أبي جعفر العمري فوجدته شيخا متواضعا عليه منطقة بيضاء قاعد على لبد في بيت صغير، ليس له غلمان ولا له من المروة والفرش ما وجدته لغيره، فسلمت فرد السلام وأدناني وبسط مني ثم سألني عن حاجتي فعرفته أني وافيت من الجبل، وحملت مالا فقال: إن أحببت أن يصل هذا الشئ إلى من يجب أن يصل إليه تخرج إلى سر من رأى وتسال عن فلان بن فلان الوكيل، وكانت دار ابن الرضا (ع) عامرة، فإنك تجد هناك ما تريد، فخرجت إلى سر من رأى وصرت إلى دار ابن الرضا (ع) وسالت عن الوكيل فذكر البواب انه مشتغل بالدار، وأنه يخرج آنفا فقعدت على الباب انتظر خروجه فخرج بعد ساعة، فقمت وسلَّمت عليه فأخذ بيدي إلى بيت كان له وسألني عن حالي وما وردت له، فعرفته أني حملت شيئا من المال من ناحية الجبل، واحتاج أن أسلِّم بحجة فقال: نعم ثم قدم إلي طعاما وقال: تغذ بهذا واسترح فإنك تعب وبيننا وبين الصلاة الأولى ساعة فاني احمل إليك ما تريد فأكلت ونمت فلما كان وقت الصلاة الأولى ساعة فاني احمل إليك ما تريد فأكلت ونمت، فلما كان وقت الصلاة قمت وصليت وذهبت إلى المشرعة فاغتسلت وزرت وانصرفت إلى بيت الرجل ومكثت إلى أن مضى من الليل ربعه فجائني ومعه درج فيه (بسم الله الرحمن الرحيم) وافى محمد بن أحمد الدينوري وقد حمل ستة عشر ألف دينار في كذا وكذا صرة فيها صرة فلان بن فلان وفيها كذا وكذا دينار وصرة فلان بن فلان وفيها كذا وكذا دينار إلى أن عدد الصرر كلها وفيها صرة فلان ابن فلان الزراع ستة عشر دينارا، قال: فوسوس لي الشيطان وقلت في نفسي ان سيدي أعلم بهذا منى فمازلت اقرأ ذكر صرة صرة وذكر صاحبها عليها حتى اتى على آخر صرة، وذكر بعد ذلك وقد حمل من قرمسين من أحمد بن الحسن المادراني أخي الصراف كيسا فيه ألف دينار وكذا وكذا تختا من الثياب ثوب لونه كذا وثوب لونه كذا حتى وصف ألوان الثياب ونسبها إلى أصحابها عن آخرها) قال: فحمدت الله وشكرته على ما منَّ به علي مما أزال الشك عن قلبي، ثم امرني بتسليم جميع ما حملت إلى حيث يأمرك أبو جعفر العمري، قال: فانصرفت إلى بغداد وصرت إلى أبي جعفر العمري وكان خروجي وانصرافي في ثلاثة أيام، فلما بصر بي أبو جعفر قال لي: ألم تخرج؟ قلت: يا سيدي بلى.

وانصرفت من سر من رأى، فانا أحدث أبا جعفر إذ وردت رقعة إليه من صاحب الامر عليه السلام ومعها درج مثل الدرج الذي كان معي فيه ذكر المال والثياب، وأمره ان يسلم جميع ذلك إلى أبي جعفر محمد بن أحمد بن جعفر القطان القمي، فلبس أبو جعفر ثيابه وقال لي: احمل ما معك إلى منزل محمد بن أحمد بن جعفر القطان، فحملت المال والثياب إلى منزل القطان وسلمتها إليه وخرجت إلى الحج، فلما رجعت إلى الدينور اجتمع عندي الناس فأخرجت الدرج الذي أعطانيه وكيل مولانا صلوات الله عليه وقرأته على القوم، فلما سمع ذكر الصبرة باسم الزراع صاحبها سقط مغشيا عليه وما زلنا نعلله حتى أفاق ولما أفاق سجد شكرًا لله عز وجل وقال: الحمد لله الذي منَّ علينا بالهداية، الآن علمت أن الأرض لا تخلو من حجة، هذه الصرة دفعها إلي هذا الزراع ولم يقف على ذلك إلا الله عز وجل، قال: وخرجت بعد ذلك فلقيت أبا الحسن المادراني وعرفته الخبر وقرأت عليه الدرج فقال: يا سبحان الله مهما شككت في شئ فلا تشك أن الله لا يخلي ارضه من حجة(17).

النموذج الثاني: ما روى أنَّ الحسن بن علي الوجناء النصيبي جاء إلى بغداد ومعه محمد بن الفضل الموصلي وكان شيعيًا غير أنه يُنكر وكالة أبي القاسم ابن روح (رحمه الله) فقال: إن هذه الأموال تخرج في غير حقوقها وكان ذلك في سنة سبع وثلاثمائة في بداية سفارة الحسين بن روح، فقال الحسن بن علي الوجناء لمحمد بن الفضل: اتق الله فإنَّ صحَّة وكالة أبي القاسم كصحَّة وكالة أبي جعفر محمد بن عثمان العمري، وقد كان ابن الوجناء وابن الفضل نزلا على الزاهر، قال الصفواني: وكنَّا قد حضرنا للسلام عليهما، وقد كان قد حضر هناك شيخ لنا يقال له أبو الحسن بن مظفر، وأبو القاسم بن الأزهر، فطال الخطاب بين محمد بن الفضل وبن الحسن الوجناء.

فقال الحسن الوجناء: أُبيِّن لك ذلك بدليل يثبت في نفسك، فأخذ ابن الوجناء دفترًا كبيرًا فيه ورق طلحي وقطع منه نصف ورقه بيضاء، وقال لمحمد بن الفضل: ابرى قلمًا.

فبرى قلمًا، فقال له: اكتب مسائلك على الورقة دون مداد، ودون أن يؤثِّر في الورقة.

فكتب مسائل لم يطلع عليها غيرهما ثم ختمه وبعثا بها مع الخادم إلى الحسين بن روح وبقي الجميع في المجلس، وبعد صلاة الظهر جاء الجواب وهم على المائدة، فكان الجواب مطابقًا لما كتباه من أسئلة فصلاً فصلاً، فلطم محمد بن الفضل وجهه ولم يتهنأ بطعامه وقام مع إبن الوجناء وذهبا إلى أبي القاسم واعتذر أبن الفضل وهو يبكي وقال يا سيدي اقلني أقالك الله(18).

النموذج الثالث: ما روي أن محمد بن عثمان العمري أخبر عن وقت موته تفصيلاً، فأخبرهم عن السنة والشهر واليوم، فاثبتوا ذلك التأريخ فوقع ما كان قد أخبر عنه دون أدنى اختلاف، روى ذلك الشيخ الطوسي بسندين والثالث قريب منهما(19).

النموذج الرابع: ما روي أنَّ الشيخ أبا الحسن علي بن محمد السمري قال يومًا: في مجلسه رحم الله علي بن الحسين بن بابويه القمي، فكتب المشايخ تاريخ ذلك اليوم فورد الخبر أنه توفي ذلك اليوم.

روى ذلك الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة بسندٍ معتبر عن صالح بن شعيب الطالقاني(20).

النموذج الخامس: ما رواه الصدوق بسندٍ معتبر أنا أبا الحسن السمري أخرج إلى الناس توقيعًا قبل وفاته ورد فيه "يا علي بن محمد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك ولا توصي إلى أحد ..".

قال فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلما كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه فقيل له: من وصيُّك من بعدك؟ فقال: "لله أمر هو بالغه وقضى .."(21).

النموذج السادس: ما روى في حديث طويل أنه خرج توقيع من الناحية المقدسة على يد الحسين بن روح النوبختي إلى القاسم بن العلاء وكان ضريرًا، واشتمل هذا التوقيع على إخباره بموته بعد أربعين يومًا من وصول التوقيع إليه وبعث إليه بكفنٍ، فأقرأ القاسم أبا حامد عمران بن الـمفلس وأبا علي بن حجدر الكتاب وطلب منهما أنْ يُقرءاه عبد الرحمن بن محمد وكان من الـمخالفين، فلما قرأه قال للقاسم يا أبا مـحمد اتق الله فإنك رجل فاضل متمكن من عقلك، والله عز وجل يقول: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا﴾(22) فضحك القاسم وقال: أتم الآية ﴿إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ﴾(23) ومولاي هو الرضا من الرسول وقال: قد علمتُ أنك تقول هذا، ولكن أرِّخ اليوم فإن أنا عشت بعد هذا اليوم المؤرخ في هذا الكتاب فاعلم إني لستُ على شيء، وإن أنا متُّ فانظر في أمرك فورَّخ عبد الرحمن اليوم وافترقوا.

ثم أن القاسم عاد إليه بصره ودخل عليه قاضي القضاة أبو السائب عتبة بن عبيد الله وتثبت من ذلك.

فلما كان في يوم الأربعين وقد طلع الفجر مات القاسم (رحمه الله) فوافاه عبد الرحمن يعدو في الأسواق حافيًا خاسرًا وهو يصيح واسيداه، فاستعظم الناس منه ذلك فقال: اسكتوا فقد رأيت ما لم تروه وتشيَّع(24).

النموذج السابع: ما رُوي أن رجلاً يُسمَّى سرور الأهوازي، وكان عابدًا مجتهدًا قال: إنَّ أباه وعمه أدخلاه وهو صبي لا يتجاوز الرابعة عشرة من عمره على أبي القاسم بن روح وسألاه أن يسأل الإمام أن يفتح لسانه. فقال لهما أبو القاسم إنَّكم أُمرتم بالخروج إلى الحائر. قال سرور: فخرجنا إلى الحائر فاغتسلنا وزرنا، فصاح بي أبي وعمي يا سرور، فقلت بلسان فصيح لبيك فقال لي: ويحك تكلمت فقلتُ: نعم(25).

هذه مجموعة من النماذج للطريق الثاني الذي يتمسك به الشيعة في مقام التثبت من صدق المدَّعي للسفارة والنيابة عن صاحب الزمان (عج)، ولو لا خشية الإطالة لذكرنا الكثير منها.

وتلاحظون انَّ النموذج الأول والذي وقع في بدايات عصر الغيبة الصغرى يعبِّر عن حرص الشيعة على التثبت من صدق المدعي للنيابة فنجدهم يوصون من وكّلوه بتسليم الحقوق الشرعية بأن لا يسلِّمها إلى حدٍ إلا بعد ظهور الحجَّة البيِّنة على يديه، وهكذا يلتزم من وكلوه بذلك فلا يُسلِّم المال إلا بعد التثبُّت من صدق من سلَّمه إليه، فقد أظهر من الدلائل ما يتعذَّر ظهورها على غير من هو متصل بصاحب الأمر المؤيد بعلم الغيب من الله جلَّ وعلا.

وكذلك نجد ما اشتملت عليه النماذج الأخرى والتي نقلناها موجزًا فهي تعبير صادق عن انَّ السفراء الأربعة كانوا مؤيدين من قبل صاحب الأمر (عج) بما كان يصدر من ناحيته المقدسة إليهم من توقيعات يكشف مضمونها عن صدق دعواهم النيابة، ولولا ذلك -مضافًا إلى النص المُحرَز صدوره عن المعصوم- لما قبل الشيعة بدعواهم النيابة لصاحب الزمان (عج).

وسائل التصدي للسفارات الكاذبة

لم يكن الشيعة في عصر الغيبة الصغرى وبدايات عصر الغيبة الكبرى بحاجة إلى كثير من الوسائل للكشف عن كذب أدعياء السفارة، ذلك لأنَّ منصب السفارة كما ذكرنا لم يكن ليثبت لأحدٍ إلا أنْ يكون واجدًا لكلا الحجتين: وهما النص والإعجاز، فيكفي لسقوط دعوى مدعي السفارة ان يظهر عجزه عن إقامة كلا الحجتين، إلا انه ونظرًا لتميُّز مدعي السفارة عادةً ببعض السمات الذاتية والاجتماعية التي قد ينتج عنها وقوع بسطاء الناس في شرَكهم فيتوهمون صدق دعواهم، فلأن مدعي السفارة عادة ما يتميزون بالفطنة والدهاء وظاهر الصلاح، وقد يكون لهم تأريخ مشرق في الجهاد أو الصحبة للإمام (عج)، أو أحد السفراء، ولهذا فقد يتسامح بسطاء الناس معهم ويُذعنون بصدق دعواهم النيابة دون مطالبتهم بالدليل، ثم إن هؤلاء كثيرًا ما يتوسَّلون بالكذب واختلاق المناقب والفضائل والكرامات، ويروِّجونها بين الناس بواسطة بطانتهم والذين تربطهم بهم مصالح ذاتية أو فئوية، لذلك اقتضت الحاجة إلى أن يتصدى الإمام (عج) وعلماء الطائفة لأدعياء السفارة والنيابة رغم وضوح كذبهم عند عقلاء الناس ممَّن لا يقبلون بدعوى مدَّعٍ إلا بعد التثبُّت وقيام الحجة، ويمكن تصنيف الوسائل التي اعتُمدت في ذلك إلى أربع وسائل:

الوسيلة الأولى: ظهور التوقيعات من الناحية المقدسة عن طريق السفراء المسلَّم باتصالهم بالإمام الحجة (عج) عند الشيعة قاطبة.

وقد اشتملت هذه التوقيعات على بيان كذب المدعين للنيابة، وكذلك اشتملت على تسميتهم بأسمائهم والأمر بلعنهم والتبرِّي منهم.

فممَّن صدرت التوقيعات الشريفة بلعنهم والأمر بالتبرِّي منهم وممَّن شايعهم بعد بلوغ الحجة هم:

1- أبو محمد الشريعي وهو -كما أفاد الشيخ الطوسي- أول من ادعى مقام النيابة كذبًا، وكان من أصحاب الإمامين الهادي والعسكري (ع).

روى الشيخ الطوسي بسندٍ معتبرٍ عن أبي علي محمد بن همام قال: كان الشريعي يكنّى بأبي محمد .. وهو أول من ادّعى مقامًا لم يجعله الله إليه ولم يكن أهلاً له .. فلعنته الشيعة وتبرأت منه وخرج توقيع الإمام (عج) بلعنه والبراءة منه(26).

2- أحمد بن هلال الكرخي العبرتائي، وكان من أصحاب أبي محمد الحسن العسكري (ع)، ولد كما أفاد الشيخ في كتاب الفهرست سنة ثمانين ومائة ومات سنة سبع وستين ومائتين(27) وأفاد ذلك النجاشي(28) في رجاله نقلاً عن أبي علي بن همام، فيكون قد أدرك من عصر الغيبة الصغرى سبع سنوات، ذكره الشيخ فيمن ادّعى النيابة لصاحب الأمر (عج)، وأفاد أنه ظهر التوقيع من الناحية بلعنه والبراءة منه(29).

روى الشيخ الكشي في اختيار معرفة الرجال بسنده عن أحمد بن إبراهيم المراغي قال: ورد على القاسم بن علا نسخة ما خرج من لعن ابن هلال، وكان ابتداء ذلك أنَّه كتب (عج) إلى قوامه بالعراق: "احذروا الصوفي المتصنع"، قال: وكان شأن أحمد بن هلال أنَّه قد كان حج أربعًا وخمسين حجة، عشرون منها على قدميه.

قال: وكان رواة أصحابنا بالعراق لقوه وكتبوا منه، وأنكروا ما ورد في مذمته، فحمَّلوا القاسم بن العلا على أن يُراجع في أمره، فخرج إليه: قد كان أمرنا نفذ إليك في المتصنع ابن هلال لا رحمه الله بما قد علمت لم يزل، لا غفر الله له ذنبه ولا أقاله عثرته، يُداخل في أمرنا بلا إذنٍ منا ولا رضى، يستبد برأيه فيتحامى من ديوننا، لا يمضي من أمرنا إلا بما يهواه ويريد أرداه الله بذلك نار جهنم، فصبرنا عليه حتى بتر الله بدعوتنا عمره، وكنا قد عرَّفنا خبره قومًا من موالينا في أيامه لا رحمه الله، وأمرناهم بإلقاء ذلك إلى الخاص من موالينا، ونحن نبرأ إلى الله من ابن هلال لا رحمه الله وممن لا يبرء منه، وأعلِم الاسحاقي سلَّمه الله وأهل بيته مما علَّمناك من حال هذا الفاجر وجميع من كان سألك أو يسألك عنه من أهل بلده والخارجين ومَن كان يستحق ان يطَّلع على ذلك .. قال أبو حامد: فثبت قوم على إنكار ما خرج فيه، فعاودوه فيه، فخرج، لا شكر الله قدره، لم يدع المرء ربه بأن لا يزيغ قلبه بعد أن هداه وأن يجعل ما منه به عليه مستقرًا، ولا يجعله مستودعًا، وقد علمتم من أمر الدهقان عليه لعنة الله وخدمته وطول صحبته، فأبدله الله بالإيمان كفرًا، حيث فعل ما فعل، فعاجله الله بالنقمة ولا يمهله، والحمد لله لا شريك له وصلَّى على محمد وآل محمد(30).

ويظهر من التوقيع الشريف ومن كلمات الرجاليين أن أحمد بن هلال كان صالحًا وكان ممن يروي كثيرًا عن أهل البيت (ع)، فقد أفاد الشيخ في الفهرست أنه روى أكثر أصول أصحابنا(31)، ولعل ذلك هو منشأ توقف بعض الناس في أمره وعدم تصديق ما ورد فيه إلا بعد المراجعة والتثبُّت الزائد.

3- محمد بن علي الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقر كان -كما أفاد الشيخ النجاشي- متقدمًا في أصحابنا فحمله الحسد لأبي القاسم الحسين بن روح على ترك المذهب والدخول في المذاهب الرديئة، حتى خرجت فيه توقيعات، فأخذه السلطان وقتله وصلبه(32)، وقال الشيخ في الفهرست أنه كان مستقيم الطريقة ثم تغيَّر وظهرت منه مقالات منكرة إلى أن أخذه السلطان فقتله وصلبه(33).

ولأنَّ هذا الرجل كانت له مكانة علمية ودينية في الوسط الشيعي، وكان يُستبعد في مثله الانحراف، خصوصًا وأنه كان وكيلاً لأبي القاسم الحسين بن روح -كما قيل- لذلك خرجت فيه توقيعات عديدة من الناحية المقدسة تؤكد انحرافه وكذبه فيما ادّعاه من النيابة لصاحب الأمر، وفساد ما استجدَّ من معتقداته ومقالاته.

فمن التوقيعات التي خرجت من الناحية المقدسة على يد الحسين بن روح -السفير الثالث- ما رواه الشيخ الطوسي بسنده عن محمد بن همام قال: خرج على يد الشيخ أبي القاسم بن روح (رض) في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة في لعن ابن أبي العزاقر، والمداد رطب لم يجف(34): "عرَّفك الله الخير، أطال الله بقاءك وعرَّفك الخير كله وختم به عملك، من تثق بدينه وتسكن إلى نيته من إخواننا أسعدكم الله بأن محمد بن علي المعروف بالشلمغاني قد ارتدَّ عن الإسلام وفارقه .. وافترى كذبًا وزورًا وقال بهتانًا وإثمًا عظيمًا .. كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً بعيدًا وخسروا خسرانًا مبينا، وإننا قد برئنا إلى الله تعالى ورسوله وآله -صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليهم- منه ولعنّاه عليه لعائن الله في الظاهر والباطن، في السر والجهر، وفي كل وقت وعلى كل حال، وعلى من شايعه وتابعه وبلغه هذا القول منا، وأقام على تولَّيه بعد، وأعلمهم أننا في التوقِّي منه والمحاذرة منه على مثل ما كان ممن تقدَّمْنا لنظرائه من الشريعي والنميري والهلالي والبلالي وغيرهم، وعادةُ الله جلَّ ثناؤه مع ذلك قبله وبعده عندنا جميلة وبه نثق وإياه نستعين، وهو حسبنا في كل أمورنا ونعم الوكيل"(35).

قال هارون وأخذ أبو علي بن همام هذا التوقيع ولم يدع أحدًا من الشيوخ إلا أقرأه إياه وكوتب من بَعُدَ منهم بنسخته في سائر الأمصار، فاشتهر ذلك في الطائفة فاجتمعت على لعنه والبراءة منه(36).

وروى الشيخ هذا التوقيع بأسانيد أخرى غير السند الذي ذكرناه(37).

الوسيلة الثانية: تصدي السفراء المسلَّم بسفارتهم لإحراج المدعي للسفارة أمام مريديه ممن قبل بدعواه.

ونذكر لذلك نموذجًا رواه الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة، حيث أفاد أنَّ محمد بن علي بن بلال ادّعى لنفسه الوكالة عن الإمام صاحب الزمان (عج).

وكانت عنده أموال للإمام (عج)، وكان ذلك في زمان أبي جعفر محمد بن عثمان العمري الذي لم يكن يختلف أحد في نيابته للإمام الحجة (عج)، وإن محمد بن علي بن بلال رغم دعواه الوكالة والنيابة للإمام (عج) لم يكن ينفي نيابة أبي جعفر للإمام الحجة (عج).

تفاجأ هذا المدّعي للوكالة بمجيء أبي جعفر محمد بن عثمان إلى داره، وكان حينها في مجلسه ومعه أخوه أبو الطيب بن علي بن بلال، وابن حرز وجماعة من أصحابه، فلم يسع محمد بن علي بن بلال إلا أن يأذن له بالدخول، فحين دخل أبو جعفر قام له محمد بن علي بن بلال والجماعة، وجلس أبو جعفر في صدر المجلس، وجلس أبو طاهر محمد بن علي بن بلال بين يديه.

فلمّا استقرَّ المجلس قال أبو جعفر محمد بن علي: نشدتك بالله ألم يأمرك صاحب الزمان بحمل ما عندك من المال إليّ؟ فقال محمد بن علي بن بلال: (اللهمَّ نعم)، فنهض أبو جعفر منصرفًا، ووقعت على القوم سكتة، فلما تجلَّت عنهم قال له أخوه أبو الطيب: من أين رأيت صاحب الزمان (عج)، فقال محمد بن علي بن بلال: أدخلني أبو جعفر إلى بعض دوره فأشرف عليَّ من علو داره، فأمرني بحمل ما عندي من المال إليه.

هذا الحدث ترتب عليه رجوع بعض مَن كان حاضرًا في المجلس عن القول بنيابة محمد بن علي بن بلال، وقد لاحظتم كيف تصاغر هذا المدَّعي للنيابة أمام أبي جعفر وأقرَّ أمامه بأنَّه لم يكن مستأمنًا على ما بيده من أموالٍ للإمام الحجة، وأن يده عليها كانت يدًا عادية رغم إيهامه لأصحابه بأنه مستأمن ووكيل لصاحب الأمر (عج)، والحال أنه يقرُّ بأنه قد خالف أوامر الإمام (عج) (38)

والظاهر أنَّ منشأ إقراره بذلك وعدم إنكاره لمناشدة أبي جعفر رغم وجوده في وسط أصحابه، وإدراكه لما سيترتب على إقراره من انكشاف كذبه وانتحاله لهذا المذهب هو اطمئنانه بأن أبا جعفر ما جاء إليه في وسط داره إلا وهو قادر على كشف كذبه أمام حاشيته ومريديه؛ لذلك وفَّر على نفسه المزيد من الإحراج فأقرَّ دون ممانعة.

الوسيلة الثالثة: هو مطالبة المدَّعي للنيابة بآية معجزة على مرأى من الناس ليتبيَّن لبسطائهم زيف دعواه.

ونذكر لذلك نموذجًا رواه الشيخ الطوسي وغيره من أعلام الطائفة.

وحاصل ما أفاده أن الحسين بن منصور الحلاّج ممن ادعى النيابة للإمام صاحب الزمان (عج) فكان من أمره أنه توهم أنَّ مخاريقه وحيله قد تنطلي على مثل أبي سهل إسماعيل بن علي النوبختي، ولأنَّ أبا سهل كان وجيهًا معروفًا بالعلم والأدب، فكان قبوله بدعوى الحلاج سوف يستوجب انخداع الكثير من بسطاء الناس وتوهمهم بصدقية دعواه، ولهذا حرص على أن يستميله ويجعل له مقامًا في دعوته، فأرسل إليه فكان فيما ورد في مراسلته "إني وكيل صاحب الزمان وقد أُمرت بمراسلتك وإظهار ما تريده من النصرة لك لتقوِّي نفسك ولا ترتاب في هذا الأمر".

فأرسل إليه أبو سهل (رض) يقول له: "إني أسألك أمرًا يسيرًا يخفُّ مثله عليك .. وهو أني رجل أحب الجواري وأصبو إليهنَّ، وبي منهنَّ عدة أتحظاهنَّ والشيب يُبعدني عنهنَّ .. وأحتاج أن أخضبه في كل جمعة وأتحمل منه مشقة شديدة .. وأريد أن تغنيني عن الخضاب وتكفيني مؤنته، وتجعل لحيتي سوداء فإني طوع يديك وصائرٌ إليك وقائل بقولك وداعٍ إلى مذهبك .."(39).

وفي نقل آخر ورد أنَّه قال له أيضًا: ".. وأنا مبتلٍ بالصلع حتى أني أطول قحفي وآخذ به إلى جبيني وأشده بالعمامه وأحتال فيه بحيل، ومبتلى بالخضاب لستر الشيب.

فإن يصل إليَّ شعرًا وردَّ لحيتي سوداء بلا خضاب آمنت بما يدعوني إليه كائنًا من كان، إن شاء قلتُ إنه باب الإمام، وإن شاء قلتُ إنه الإمام، وإن شاء قلتُ إنه النبي، وإن شاء قلت إنه الله"(40).

وأفاد الشيخ الطوسي (رحمه الله) أنه لما سمع ذلك الحلاج من قوله وجوابه علم أنه أخطأ في مراسلته .. وصيَّره أبو سهل أحدوثة وأضحوكة بين الناس حتى اشتهر أمره عند الصغير والكبير، وكان هذا الفعل سببًا لكشف أمره وتنفير الجماعة عنه(41).

الوسيلة الرابعة: تصدِّي العلماء لتوهينهم والسخرية منهم وذلك لما لهذه الوسيلة من أثر بالغ في الحيلولة دون إصغاء العامة من الناس لأراجفيهم ومخاريقهم.

وقد تقدم منَّا في الوسيلة الثالثة ما يصلح ان يكون مثالاً لهذه الوسيلة، حيث أفاد الشيخ الطوسي انَّ ما فعله أبو سهل إسماعيل بن علي النوبختي صيَّر من الحلاج أضحوكة وأحدوثة بين الناس، حتى اشتهر أمره عند الصغير والكبير، وكان هذا الفعل سببًا لكشف أمره وتنفير الجماعة منه.

وثمَّة نص آخر -يُعبِّر عن اعتماد العلماء والطائفة هذه الوسيلة- رواه الشيخ الطوسي بسندٍ معتبرٍ عن أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولوليه قال: أما أبو دلف الكاتب -لا حاطه الله- فكنّا نعرفه: .. وما عرفناه قط إذا حضر في مشهدٍ إلا استخفَّ به.

ونذكر مثالاً ثالثًا لهذه الوسيلة رواه الشيخ الطوسي بسندٍ معتبرٍ عن أبي عبد الله الحسين بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه قال: إنَّ ابن الحلاج صار إلى قم قرابة أبي الحسن يستدعيه ويستدعي أبا الحسن أيضًا ويقول: أنا رسول الإمام ووكيله، قال: فلما وقعت المكاتبة في يد أبي (رض) خرَّقها وقال لموصلها إليه: ما أفرغك للجهالات، فقال له الرجل: فإنَّ الرجل قد استدعانا فلم خرقت مكاتبته؟ وضحكوا منه وهزءوا به.

ثم نهض إلى دكانه ومعه جماعة من أصحابه وغلمانه قال: فلما دخل الدار التي كان فيه دكانه، نهض له مَن كان هناك جالسًا غير رجل رآه جالسًا في الموضع فلم ينهض له ولم يعرفه أبي، فلما جلس وأخرج حسابه ودواته كما يكون التجار، أقبل على بعض مَن كان حاضرًا فأخبره فسمعه الرجل يسأل عنه، فأقبل عليه وقال له: تسأل عني وأنا حاضر، فقال له ابي: أكبرتُك أيها الرجل وأعظمتُ قدرك ان أسألك، فقال له: تُخرِّق رقعتي وأنا أشاهدك تُخرِّقها، فقال له أبي: فأنت الرجل إذًا، ثم قال: يا غلام برجله وبقفاه.

فخرج من الدار العدو لله ولرسوله، ثم قال له: اتدَّعي المعجزات عليك لعنة الله، أو كما قال: فاُخرج بقفاه فما رأيناه بعدها بقم(42).

ولعل منشأ اعتماد هذه الوسيلة مضافًا للوسائل الأخرى هو صعوبة التواصل مع عامة الناس نظرًا لاشتغالهم بشؤون معاشهم وسائر شؤونهم الخاصة، فلا فرصة لأكثرهم للوقوف على الحجة والبرهان، وقد لا يستوعب بعضهم لغة البرهان والحجة.

ولهذا قد تنطلي على كثير منهم ما يصلهم اتفاقًا من أفكار، خصوصًا إذا تمظهرت بمظهر عقلاني أو غيبي، وكان المتصدِّي لترويجها ممِّن هو على ظاهر الصلاح.

فنظرًا لفراغهم العقائدي وعدم قدرة الكثير منهم على كشف المغالطات التي يحبكها المروِّجون للأفكار الدخيلة، لذلك يقع الكثير من بسطاء الناس فريسةً للأراجيف التي يسوَّق لها المعقَّدون أو المبطلون، ولهذا كان واحدًا من وسائل تحصين القواعد الشعبية للطائفة هو توهين أصحاب الرايات الضالة والسخرية منهم لان ذلك يُساهم عادة في عدم إصغاء عامة الناس لهم، فلا يقعدون فريسة مخاريقهم.

وأما دعوى أنَّ ذلك يعدُّ امتهانًا لعقليات الناس، فهو واحدة من الوسائل التي يُمارسها المبطلون للتغرير ببسطاء الناس، فإن مما يشهد به الوجدان ان الناس ليسوا على مستوىً واحد، وأنَّ كثيرًا منهم سهل الانقياد، وكما أفاد الإمام علي (ع): "الناس ثلاثة: عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهج رعاع ينعقون مع كل ناعق".

وهنا أمران يحسن الإشارة إليهما ونحن بصدد استعراض تأريخ السفارات الكاذبة.

أكثر أدعياء السفارة انحرفوا عقائديا

الأمر الأول: إن أكثر من ادّعى السفارة والنيابة للإمام الحجة (عج) انتهى أمره إلى الانحراف العقائدي التام، فيكون أمره في مبدأ انحرافه مدّعيًا للنيابة والبابيَّة، ثم ينتهي إما إلى الكفر، أو الغلو وهو من شعب الكفر أو إلى القول بالتناسخ والحلول، أو التبني لتشريعات منافية لضرورة الإسلام كما اتفق لبعضهم القول بجواز نكاح المحارم.

ويمكن التوثُق من ذلك بملاحظة استقراء أحوال أدعياء السفارة، مضافًا إلى ما أفاده بعض علمائنا المتقدمين والمعاصرين لزمن الغيبة الصغرى وبدايات الغيبة الكبرى، ومن ذلك ما رواه الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة بسندٍ معتبرٍ عن أبي علي بن همام قال: قال أبو علي بن هارون: "وكل هؤلاء المدعين إنما يكون كذبهم أولاً على الإمام (عج) وإنهم وكلاؤه، فيدعون الضعفة بهذا القول إلى موالاتهم ثم يترقى الأمر بهم إلى قول الحلاجية كما اشتهر عن أبي جعفر الشلمغاني ونظرائه عليهم جميعًا لعائن الله تترى"(43).

وأما الطريق الآخر وهو استقراء أحوال أدعياء السفارة، فنذكر له أربعة نماذج:

النموذج الأول: أبو محمد المعروف بالشريعي، وقيل إنَّ اسمه الحسن، وكان من أصحاب الإمامين العسكريين (ع).

روى الشيخ في الغيبة بسنده عن أبي علي محمد بن همام قال: قال هارون: "وهو أول من ادّعى مقامًا لم يجعله الله فيه ولم يكن أهلاً له، وكذب على الله وعلى حججه (عليهم السلام)، ونسب إليهم ما لا يليق بهم، وما هم منه براء .." قال: ثم ظهر منه القول بالكفر والإلحاد(44).

وروى ذلك الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج(45).

النموذج الثاني: محمد بن نصير النميري، روى الشيخ عن ابن نوح عن هبة الله بن محمد قال: "كان محمد بن نصير النميري من أصحاب أبي محمد الحسن بن علي (ع) فلما توفي ادّعى مقام أبي جعفر محمد بن عثمان، أنه صاحب إمام الزمان، وادّعى البابية، وفضحه الله بما ظهر منه من الإلحاد والجهل .. وادعى ذلك الأمر بعد الشريعي"(46).

وروى الشيخ أيضًا في كتاب الغيبة قال: قال سعد بن عبد الله: كان محمد ابن نصير يدّعي أنه رسول نبي، وأنَّ عليَّ بن محمد أرسله، وكان يقول بالتناسخ ويغلو في أبي الحسن (ع) ويقول فيه بالربوبية، ويقول بالإباحة للمحارم، وتحليل نكاح الرجال بعضهم بعضًا في أدبارهم، ويزعم أن ذلك من التواضع والإخبات والتذلل في المفعول به، وأنه من الفاعل إحدى الشهوات والطيبات، وإنَّ الله عزّ وجل لا يحرِّم شيئًا من ذلك(47).

وروى ذلك الكشي عن أبي عمرو(48).

وقال ابن شهرآشوب في كتابه المناقب: إنّ محمد بن نصر النميري زعم أن الله لم يظهر إلا في هذا العصر وأنه علي (ع) وحده، فالشرذمة النصيرية ينتمون إليه، وهم قوم إباحية تركوا العبادات والشرعيات واستحلَّوا المنهيات والمحرمات، ومن مقالهم: إنَّ اليهود على الحق ولسنا منهم، وإنَّ النصارى على الحق ولسنا منهم(49).

النموذج الثالث: محمد بن علي الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقر وهو ممن ادّعى البابية والنيابة لصاحب العصر والزمان (عج) وأفاد النجاشي: انه ترك المذهب ودخل في المذاهب الرديئة(50).

روى الشيخ الطوسي عن الصفواني قال: سمعت أبا علي بن همام يقول: سمعت محمد بن علي العزاقري الشلمغاني يقول: الحق واحد وإنما تختلف قمصه، فيوم يكون في أبيض ويوم يكون في أحمر ويوم يكون في أزرق(51).

قال ابن همام: فهذا أول ما أنكرته من قوله، لأنه قول أصحاب الحلول.

وروى الشيخ الطوسي أن الشلمغاني كان يقول بأن روح رسول الله قد حلَّت في بدن أبي جعفر محمد بن عثمان العمري وأن روح السيدة فاطمة (ع) حلَّت في الكبيرة أم كلثوم بنت أبي جعفر العمري. (52)

وقال (رحمه الله): "أن للشلمغاني حكايات قبيحة وأمور فظيعة نُنزِّه كتابنا عن ذكرها، ذكرها ابن نوح وغيره"(53).

النموذج الرابع: أبو دلف الكاتب، ادعى النيابة بعد انقضاء عصر الغيبة الصغرى ولم يكن أحد غيره قد ادعاها بعد وفاة أبي الحسن علي بن محمد العمري السفير الربع.

وقد روى الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة بسنده عن جعفر بن محمد بن قولويه أنه قال: "أما أبو دلف الكاتب -لا حاطه الله- فكنا نعرفه ملحدًا ثم أظهر الغلو ثم جنَّ وسلسل ثم صار مفوضًا .."(54).

وقال الشيخ الطوسي (رحمه الله): "وحكايات فساد مذهب أبي دلف أكثر من أن تُحصى فلا نطوِّل بذكرها الكاتب ها هنا"(55).

هذه نماذج أربعة، ولولا خشية الإطالة لاستعرضنا أحوال كلِّ من ادعى النيابة عن صاحب الأمر، فما من أحدٍ ممن ادعى هذا المنصب كذبًا ممن ذكرهم الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة إلا وقد انحرف عن المذهب واتخذ لنفسه مذهبًا فاسدًا كمذهب الغلاة أو المفوضة أو مذهب الإباحية.

ولعل منشأ ذلك هو الخذلان الإلهي، وحتى ينكشف للمؤمنين مخبوء سريرة المدعي لذلك، ويتبين لهم خبث ما انطوت عليه نفسه، فلا يكون بعدئذٍ لمتوهم عذر يعتذر به.

انقطاع السفارة من ضروريات المذهب

الأمر الثاني: إن انقطاع السفارة والنيابة الخاصة لصاحب الأمر (عج) بموت السفير الرابع يُعدُّ من ضروريات المذهب ومن مسلَّمات الإماميَّة، وذلك وحده كاف لثبوت كذب كلِّ من ادعى النيابة بعد انقضاء عصر الغيبة الصغرى وموت أبي الحسن السمري، ولا ريب في حجيَّة التسالم حتى عند مَن لا يرى للإجماع حجيَّة، وذلك لأن التسالم من الأدلة الوجدانية وليس من قبيل الأدلة الإجتهادية، ولهذا روى الشيخ الطوسي عن شيخه الشيخ المفيد عن أبي الحسن علي بن بلال المهلبي وهو من الثقات الأجلاء قال: سمعت أبا القاسم جعفر بن محمد بن قولويه -وهو من أجلاء الطائفة وأعيانها- يقول: وأما أبو دلف الكاتب -لا حاطه الله- .. ولا عرفته الشيعة إلا مدة يسيرة، والجماعة تتبرأ منه وممن يُومي إليه ويُنمِّس به .. فلعنَّاه وبرئنا منه، لأن عندنا أن كل من ادعى الأمر بعد السمري (رحمه الله) فهو كافر منمس ضال مضل وبالله التوفيق(56).

فهذا النص والذي هو في أعلى مراتب الصحة السندية صريح في أنَّ ادعاء السفارة والنيابة بعد السمري يُعدُّ من شعب الكفر ومن الضلال البيِّن، وذلك تعبير عن أنَّ انقطاع السفارة بموت السمري من ضروريات المذهب الشريف المستلزم لضلالة كلِّ من تنكَّر لذلك.

ويمكن تأييد هذا التسالم بالتوقيع الشريف الصادر عن الناحية المقدسة على يد أبي الحسن علي بن محمد السمري، فقد روى الشيخ الصدوق عن شيخه أبي محمد الحسن بن أحمد المكتِّب قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي تُوفي فيها الشيخ علي بن محمد السمري فحضرته قبل وفاته بأيام، فأخرج إلى الناس توقيعًا نسخته: "بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك فإنك ميت بينك وبين ستة أيام، فاجمع أمرك ولا توصِ إلى أحدٍ يقوم مقامك بعد وفاتك فقد وقعت الغيبة الثانية (التامة) فلا ظهور إلا بعد إذن الله عز وجل، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جورًا، وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني، والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"(57).

أما سند هذا التوقيع الشريف فهو معتبر وأعلائي، فهو أعلائي نظرًا لقلة الوسائط بين الراوي و بين الإمام (عج)، فالواسطة بين الشيخ الصدوق (رحمه الله) وبين الإمام (عج) هو شيخه أبو محمد الحسن بن أحمد المكتِّب، والثاني هو الشيخ أبو الحسن علي بن محمد السمري، والحديث إذا كان سنده أعلائيًّا يكون أدعى بنظر علماء الرجال وكذلك عموم العقلاء للوثوق بصدوره، فيكون ذلك قرينة تُضاف إلى وثاقة رواته على صدقه، وأما أنه معتبر فلأن راويه هو شيخ المحدثين عند الإمامية وهو الشيخ الصدوق (رحمه الله)، وقد رواه عن شيخه أبي محمد الحسن بن أحمد المكتِّب والذي كان يكثر من الترحم عليه والترضي عنه، وتلك أمارة على وثاقته، وأما راوي التوقيع مباشرة عن الإمام (عج) فهو الشيخ السمري السفير الرابع والذي هو غني عن التعريف وذلك لتسالم الطائفة على جلالة قدره وعلوِّ شأنه.

هذا وقد تلقَّى علماء الطائفة هذا التوقيع بالقبول واستندوا إليه في مدوَّناتهم، وتلك أمارة أخرى على اعتبار هذا التوقيع الشريف.

وأما دلالة التوقيع على انقطاع السفارة بموت السمري فهي مستفادة من قوله (عج) للسمري (رحمه الله): "فأجمع أمرك ولا توصِ إلى أحدٍ يقوم مقامك بعد وفاتك فقد وقعت الغيبة التامة أو الثانية، فلا ظهور إلا بعد إذن الله عز وجل".

فالنهي عن الإيصاء صريح في انقطاع السفارة بموت السمري، خصوصًا وأن الإمام فرَّع على ذلك وقوع الغيبة التامة أو الثانية، وذلك تعبير صريح عن أن طبيعة الغيبة التامة والثانية مختلفة عن طبيعة الغيبة الصغرى، وليس من شيء امتازت به الغيبة الأولى إلا السفراء الذين كان يتصل الإمام بشيعته عن طريقهم، فلا معنى لوقوع الغيبة الثانية أو التامة إلا انتفاء هذا الميزة وذلك هو معنى انقطاع السفارة والنيابة الخاصة.

على أن قوله (عج): "فلا ظهور" يقتضي ذلك أيضًا إذ أنه (عج) لم يكن ظاهرًا أيضًا في زمن الغيبة الأولى إلا بمستوى الالتقاء بالسفراء، ومعنى ذلك أن هذا المستوى من الظهور يكون منتفيًا في الغيبة الثانية.

ثم إن الإمام (عج) صرَّح في ذيل التوقيع الشريف أن من ادّعى المشاهدة بعد وقوع الغيبة الثانية والتامة وقبل ظهور السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر.

والقدر المتيقن من مدلول المشاهدة هو الاتصال المنتظم بالإمام (عج) ودعوى النيابة الخاصة، بل إن المتعيِّن من مدلول لفظ المشاهدة هو ذلك بقرينة أن التوقيع كان بصدد بيان انتفاء النيابة بموت السمري فيكون ذلك قرينةً على أن المراد من قوله: "فمن ادّعى المشاهدة ..، فهو كذّاب مفتر" هو المشاهدة المنتظمة التي لا تتفق إلا للنواب والوكلاء.

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: تساؤلات في الفقه والعقيدة

الشيخ محمد صنقور


1- كتاب الغيبة -الشيخ الطوسي- ص397-414.

2- بحار الأنوار -المجلسي- ج51 / ص301، فرج المهموم -السيد ابن طاووس- ص240، دلائل الإمامة -الطبري- ص521.

3- فرقة نشأت في إيران سنة 1260هـ 1844م تأسست على يد الميرزا علي محمد رضا الشيرازي الذي ادّعى في أول أمره أنه الباب للإمام المهدي(عج) ثم ترقى في انحرافه إلى ان ادّعى حلول الذات الإلهية فيه ولما تصدى العلماء لمناقشته وتفنيد دعواه تظاهر بالتوبة إلا انه لم يكن صادقاً في ذلك كما ظهر لهم ذلك بالوجدان، وبعد ان كثرت أتباعه وتمادى في انحرافه عن عقيدة الإسلام حبسه السلطان القاجاري آنذاك ثم أعدمه إلا ان فرقته لم تندثر بإعدامه بل توسّعت وتجلَّت بعد ذلك في مسمىً آخر هو الفرقة البهائية على يد رجل يُسمى بالميرزا حسين علي الملقب ببهاء الله، وأصبح لهذه الفرقة وجود لافت في فلسطين والعراق ومصر وغيرها من الحواضر الإسلامية، هذا وقد تم الإعلان رسمياً عن انَّ الدين البهائي دين مستقل عن الإسلام ومطلق الديانات في المؤتمر المعروف بمؤتمر بدشت في 1264 هـ وقد تألّق بهاء الله في هذا المؤتمر وأصبح هو الراعي لهذا الدين وادّعى لنفسه بعد ذلك مقام النبوة وانَّ كتبه وحي من الله تعالى، فكانت أبرز معتقداتهم هو القول بأن النبي محمد (ص) ليس هو خاتم الأنبياء والمرسلين وانَّ الإسلام قد تمّ نسخه بالدين البهائي بمعنى انَّ كل ما يتنافى من الإسلام مع الدين البهائي فهو منسوخ، ومما يُنسب إليهم القول بضرورة توحيد الأديان في دين واحد هو الدين البهائي هذا وقد خالفوا الكثير من التشريعات الإسلامية فنُسب إليهم بعدم لزوم الحجاب على المرأة وعدم وجوب صيام شهر رمضان وقالوا بلزوم صوم تسعة عشر يوماً ينتهي بعيد النوروز وجعلوا قبلتهم عكَّا في فلسطين موضع قبر بهاء الله، وأسقطوا الحدود وسوَّوا بين الرجل والمرأة في الميراث، هذا وقد أفتى علماء الشيعة بارتدادهم ونجاستهم، وقد تصدّى العلماء لتفنيد معتقداتهم ومخاريقهم وألِّفت في ذلك عشرات الرسائل والكتب، وأكد المحققون اتصال هذه الفرقة بالنفوذ الروسي أولاً ثم بالاستعمار البريطاني وبالحركة الصهيونية وذلك لإحداث الفوضى والفتن في الوسط الإسلامي والشيعي كما أن الفرقة القاديانية أُنشئت في الهند وباكستان أولاً لإحداث الفوضى والفتن في الوسط السني.

4- الغيبة: 354، بحار الأنوار: ج51/344.

5- الغيبة: 355.

6- الغيبة: 357، بحار الأنوار: ج51/347.

7- الغيبة: 356، بحار الأنوار: ج51/345.

8- الغيبة: 243، 360، الكافي للكليني: ج1/330، وسائل الشيعة: ج27 باب الرجوع في القضاء والفتوى ج4/138.

9- الغيبة: 370، الخرائج والجرائح للراوندي: ج2/1121، بحار الأنوار: ج15/354.

10- الغيبة: 371، بحار الأنوار: ج51/355.

11- الغيبة: 371، بحار الأنوار: ج51/355.

12- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: 433، الغيبة: 394، بحار الأنوار ج51/360.

13- الغيبة: 394، بحار الأنوار: ج51/360.

14- الاحتجاج: ج2/296، بحار الأنوار: ج51/362.

15- تاج المواليد للشيخ الطبرسي: 67.

16- الغيبة: 363، بحار الأنوار: ج51/350.

17- فرج المهموم للسيد ابن طاووس: 239، ودلائل الإمامة: 521.

18- الغيبة: 315.

19- الغيبة: 365، فلاح السائل للسيد ابن طاووس: 74، بحار الأنوار: ج15/351، جامع أحاديث الشيعة: ج2/ص404.

20- كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: 503، الغيبة: 394، الثاقب في المناقب لابن حمزة الطزسي: 614، الخرائج والجرائح للراوندي: ج2/1128.

21- كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: 503، الغيبة: 394، الثاقب في المناقب لابن حمزة الطزسي: 614، الخرائج والجرائح للراوندي: ج2/1128، أعلام الورى: ج2/269.

22- سورة الجن / 26.

23- سورة الجن / 27.

24- الغيبة: 313، الخرائج والجرائح: ج1/469، منتخب الأنوار المضيئة للسيد بهاء الدين النجفي: 243.

25- الغيبة: 309، بحار الأنوار: ج15/325.

26- الغيبة: 397، بحار الأنوار: ج51/367، الاحتجاج: ج2/289، جامع أحاديث الشيعة: ج14/448.

27- الفهرست للشيخ الطوسي: 83.

28- رجال النجاشي: 83.

29- الغيبة: 399، 353، الاحتجاج للطبرسي ج2/289، بحار الأنوار ج51/380.

30- اختيار معرفة الرجال: ج2/816، جامع أحاديث الشيعة للبروجردي ج1/222، ج14/445، بحار الأنوار ج50/318.

31- الفهرست للطوسي: 83، معالم العلماء لابن شهرآشوب: 57.

32- رجال النجاشي: 378.

33- الفهرست للطوسي: 224.

34- الغيبة للطوسي: 410، بحار الأنوار: ج51/376، جامع أحاديث الشيعة ج14/446.

35- الغيبة: 411، بحار الأنوار: ج51/377، تعليقة على منهج المقال للوحيد البهبهاني: 318.

36- الغيبة: 411، بحار الأنوار: ج51/377، جامع أحاديث الشيعة ج14/447.

37- الغيبة: 411.

38- الغيبة: 400، بحار الأنوار: ج51/369.

39- الغيبة: 401، بحار الأنوار: ج51/370.

40- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج8/122، الكنى والألقاب للشيخ عباس القمي: ج2/185.

41- الغيبة: 402، بحار الأنوار: ج51/370.

42- الغيبة: 403، بحار الأنوار: ج51/371.

43- الغيبة: 397، بحار الأنوار: ج51/367، جامع احاديث الشيعة: ج14/449.

44- الغيبة: 397، بحار الأنوار: ج51/367.

45- الاحتجاج للطبرسي: ج2/289.

46- الغيبة: 398، بحار الأنوار: ج51/367.

47- الغيبة: 398، بحار الأنوار: ج25/318، ج51/368.

48- اختيار معرفة الرجال: ج2/805.

49- مناقب آل أبي طالب لابن شهراشوب: ج1/228، بحار الأنوار: ج25/286.

50- رجال النجاشي: 378.

51- الغيبة: 408، بحار الأنوار: ج51/373.

52- الغيبة: 404، بحار الأنوار: ج51/372.

53- الغيبة: 406، بحار الأنوار: ج51/373.

54- الغيبة: 412، بحار الأنوار: ج51/377.

55- الغيبة: 413، بحار الأنوار: ج51/378.

56- الغيبة: 412، خلاصة الأقوال للعلامة الحلي: 434، بحار الأنوار: ج51/378.

57- كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: 516، الغيبة 395، الاحتجاج/ ج2/297، تاريخ المواليد للطبرسي: 69، الثاقب في المناقب لابن حمزة الطوسي: 603، الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي ج3/1129، إعلام الورى للطبرسي ج2/260، كشف الغمة للأردبيلي ج2/347، بحار الأنوار ج51/361، ج52/151.