هل إيصال الخمس للفقيه يستند إلى دليل شرعي؟
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
إنَّ إيصال الخمس إلى الفقيه لا يستند إلى دليلٍ شرعي بل ولا أصل له في الشريعة، فالخمس في الآية المباركة قد صُنِّف على أسهمٍ ستة، وليس منها الفقيه ولا جاءت رواية تقتضي أنَّ للفقيه حقًا في الخمس، فلماذا يُفتي الفقهاء بلزوم إيصال الخمس إليهم؟ وما هو وجه إستحقاقهم له؟ ولماذا يصرف الفقهاء الخمس على أنفسهم؟
الجواب:
الجواب عن هذه الشبهة يقتضي إيضاح مجموعة من الأمور:
الأمر الأول: إنَّ ما يفتي به مشهور الفقهاء هو لزوم إيصال نصف الخمس إليهم وهي الأسهم الثلاثة سهم الله وسهم رسوله (ص) وسهم ذي القربى، وأمَّا الأسهم الثلاثة الأخرى فهي للفقراء المنتسبين إلى الرسول (ص) أعني الأيتام والمساكين وأبناء السبيل، والمشهور بين الفقهاء أنَّ للمكلف حقَّ التصدِّي بنفسه في صرف الأسهم الثلاثة الأخرى على أيتام آل الرسول (ص) ومساكينهم وأبناء سبيلهم، ومَن يُفتي من الفقهاء بلزوم إيصال تمام الخمس إلى الفقيه فهو يصرِّح بأنَّ نصف الخمس يتمُّ صرفه من قِبله على أيتام آل الرسول (ص) ومساكينهم وأبناء سبيلهم، فهو يرى بحسب ما اقتضاه إجتهاده أنَّ مَن له حقّ التصدي لصرف حقّ السادة عليهم هو الفقيه لا أنَّ للفقيه حقَّ الاستيلاء عليه والاستفادة منه، ومَن اتَّهم الفقهاء -ممَّن يرى هذا الرأي- بذلك فهو متجنٍّ وظالم، ولا سبيل له في إثبات ذلك إلا سوء الظنِّ والفرية بغير حقٍّ.
الأمر الثاني: إنَّ من الفقهاء مَن يُفتي بإستحقاق المكلَّف للتصدي بنفسه لصرف الأسهم الثلاثة الأولى في مصارفها دون الحاجة إلى مراجعة الفقيه، وأمَّا المشهور بينهم فهو لزوم الإيصال للفقيه أو مراجعته له في الصرف في مصارف الخمس، وهؤلاء الفقهاء أعني المشهور يرون أنَّ حقّ التصدِّي لصرف الأسهم الثلاثة الأولى مختص بالفقيه، فهو الذي له صلاحية صرف الأسهم الثلاثة في مصارفها.
ودور الفقيه بنظر فقهاء الإماميَّة قاطبة هو دور النظارة والإشراف على صرف الخمس، فليس له حق الاستيلاء أو الاستفادة الشخصيَّة من الخمس، فليس له أن يأخذ درهمًا واحدًا منه إذا لم يكن مصداقًا لأحد الأصناف المذكورة في الآية المباركة، وإذا كان مصداقًا لأحد الأصناف فهو يأخذ منه مقدار حاجته شأنه شأن سائر المستحقين للخمس المذكورين في الآية المباركة.
هذا ما يُفتي به فقهاء الإماميَّة، وأمَّا ما عليه واقع حالهم فكذلك، ومَن أراد التثبُّت من ذلك فلن يجد صعوبة تُذكر خصوصًا في مثل هذا الزمان الذي أصبح فيه الوصول إلى أيِّ نقطة في الأرض ميسورًا، فليذهب إن شاء بنفسه أو يبعث من يثق به ليطَّلع على أحوالهم في حاضرة النجف الأشرف أو قم المقدسة وبقية الحواضر الإسلاميّة، وحينذاك سيُذعن بصوابيَّة ما ادعيناه من تنزُّه الفقهاء عن الإستفادة الشخصية من أموال الخمس، فرغم ما يصل إليهم من أموال تجد بيوتهم دون بيوت الناس محدودي الدخل أو في مستواها، وأثاثها يربأ متوسّطو الدخل عن الاحتفاظ بمثلها، وسيجد أنَّ ما يأكله الفقهاء في بيوتهم هو بمستوى ما يأكله الفقراء، وأمّا عوائلهم فلا يختلف حالها عن حالهم إلاّ أن يتفق اشتغال بعضهم بالتكسُّب بعد أنْ يكبر وحينئذٍ يصبح مستقلاً عن أبيه في مأكله ومشربه ومسكنه ولن تجد له تميُّزًا عن سائر من يمتهنون مهنته، فليس لأبناء الفقهاء وأقربائهم أنْ يستفيدوا من أموال الخمس بمجرَّد انتسابهم، بل عليهم أنْ يعملوا كما يعمل سائر الناس، نعم قد يستفيد بعضهم من الخمس لو كان من فقراء السادة أو كان من طلبة العلوم الدينية المشتغلين بالتحصيل والتبليغ الديني، وفي مثل هذا الفرض لا يتجاوز ما يستفيدونه عن مقدار ما يستفيده فقراء السادة أو طلبة العلوم.
هذا هو واقع ما عليه فقهاء الإماميَّة فيما يتصل بأموال الخمس ومَن أدعى غير ذلك فهو يروم التعمية على أمر مشهود فيكون ممن أعان على فضح سريرة نفسه وما انطوت عليه مِن خبثٍ ودجل.
الأمر الثالث: إنَّ مَن يجـب إيصال الخمــس إليه من الفقـهاء -بنظر الإماميَّة -هو خصوص من توفَّر على ملكة العدالة والتقوى، فلا يصح إيصال الخمس لغير المأمون ولغير الحريص على صرف الخمس في مصارفه المقرَّرة شرعًا والتي سوف نشير اليها فيما بعد إنْ شاء الله تعالى، وإذا أردت التثبُّت من ذلك فليس عليك أكثر من مراجعة كتب الفقه الإمامي.
الأمر الرابع: إنَّ منشأ فتوى الفقهاء بلزوم إيصال الخمس إلى الفقيه هو ما عليه الإماميَّة من أنه الحاكم الشرعي في عصر الغيبة، فالفقهاء وإنْ كانوا يختلفون في حدود ما تثبت له من ولاية إلا أنهم مجمعون على ثبوتها له في الجملة، فنيابة الفقهاء في عصر الغيبة عن المعصومين (ع) أمر مسلَّم بين الإماميَّة، والاختلاف بينهم إنَّما هو في حدودها إلاّ أنّ ثمّة قدرًا متيقَّنًا بينهم وهو ثبوت الولاية للفقيه على الأمور الحسبية والتي منها الإشراف والنظارة على أموال القاصرين والأوقاف والمظالم والأموال مجهولة المالك وأموال الخمس، هذا بالإضافة إلى القضاء وبعض مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وثبوت الولاية على الأمور المذكورة ليس من مختصّات الإماميَّة، بل إنّ عموم مذاهب السنة ترى أنَّ للحاكم الشرعي الولاية على هذه الأمور، والفرق بين الإماميَّة وبينهم هو أنهم يذهبون إلى أنَّ الحاكم الشرعي هو الخليفة، وأمّا الإماميَّة فيعتقدون أنَّ الحاكم الشرعي هو الإمام المعصوم المنصوص على إمامته وأنَّ الحاكميَّة الشرعيَّة في عصر الغيبة تكون للفقيه الجامع للشرائط.
فالمتابع لتاريخ الخلفاء ابتداءً من الخلافة الراشدة ومرورًا بالخلافة الأموية وانتهاءً بالخلافة العباسية بل والعثمانية يجد أن سيرتهم قد استقرَّت على التصدي للولاية على هذه الأمور مستندين في ذلك على أنَّهم لـمَّا كانوا خلفاء للرسول فلهم ما للرسول (ص) مِن ولاية على هذه الشؤون، والإماميَّة يرون ذلك أيضًا، غايته أنَّهم يعتقدون أنَّ الخليفة الشرعي للرسول (ص) هو الإمام المعصوم (ع) ثمَّ الفقيه الجامع للشرائط المعتبرة شرعًا كالعدالة والتقوى والورع.
فالاختلاف بين السنَّة والشيعة ليس مِن جهة استحقاق الحاكم الشرعي للنظارة على صرف الخمس، فهم مجمعون على أن ذلك يدخل في وظائف الحاكم الشرعي، نعم الاختلاف بينهم مِن جهة مَن له الحاكمية الشرعية، وذلك يدخل في صلب الاختلاف العقائدي بين الشيعة والسنة، ولولا خشية الخروج عن محل البحث لأفضنا الحديث في ذلك، إلا أن من أراد الاطلاع على مدارك الشيعة ومستندهم فيما يعتقدون به فعليه بمراجعة الكتب المتصدية لذلك فهي فوق الإحصاء.
والحمد لله رب العالمين
مقتبس من كتاب: تساؤلات في الفقه والعقيدة
الشيخ محمد صنقور