مستند الخمس ومصرفه؟

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ما هو المستند الذي يعتمده الشيعة في إيجابهم للخمس في غير غنائم الحرب، وأين يصرف علماؤهم الخمس؟

الجواب:

السؤال يقتضي تصنيف الجواب إلى محورين:

المحور الأول: في بيان الأدلة على وجوب الخمس في غير غنائم الحرب.

المحور الثاني: في بيان مصارف الخمس ومستند تحديدها.

أمَّا البحث في المحور الأول:

فيقتضي أولاً: التنبيه على أمر وهو أنَّ أصل وجوب الخمس موردُ وفاق بين المسلمين قاطبة، فما من فرقة من الفرق الإسلامية إلا وهي تقول بوجوب الخمس، نعم وقع الاختلاف بينهم فيما يجب فيه الخمس، إلاَّ أنَّ أكثرهم لم يقولوا باختصاص وجوب الخمس بغنائم الحرب كما يتوهَّم البعض ومنهم السائل الكريم، فما تفرَّد به الإماميَّة دون سواهم ليس هو القول بعدم اختصاص الخمس بغنائم الحرب وإنَّما هو القول بوجوب الخمس في كلِّ ما أفاد الناس من قليل أو كثير، فالشيعة يرون وجوب الخمس حتى في أرباح المكاسب والتجارات والصناعات، فهذا هو ما اختصَّوا به عمَّن عداهم من سائر الفرق الإسلامية.

ورغم أنَّ هذا الأمر واضح لمن كان له معرفة بالفقه الإسلامي إلا أنَّه لا مانع من استعراض بعض أقوال فقهاء السنة بنحوٍ موجز ليتوثَّق السائل الكريم من صحَّة ما ذكرناه.

فنقول إنَّ ثمّة موارد غير غنائم الحرب اتفق الفقهاء على وجوب الخمس في بعضها واختلفوا في البعض الآخر، والموارد هي ما يلي:

المورد الأوّل: الركاز: وهي الأموال المذخورة في الأرض ولا يُعلم لها مالك مسلم، وثبوت الخمس في هذا المورد إجماعي، فلم يختلف فيه أحد من الفقهاء وإن كانوا قد اختلفوا في حدود ما يصدق عليه عنوان الركاز، وتحقيق ذلك خارج عن محلِّ الغرض.

وممَّن صرَّح بالإجماع على وجوب الخمس في هذا المورد هو ابن قدامة في كتابه المغني(1). وقد نسب صاحب كتاب الفقه على المذاهب الأربعة القول بوجوب الخمس في الركاز إلى فقهاء المذاهب الأربعة(2).

المورد الثاني: المعادن: وهي ما يُستخرج من الأرض مما خُلق فيها ويكون من غير جنسها، وتكون له قيمة، وهي على أصناف ثلاثة:

الصنف الأول: يُعبَّر عنه بالمعادن المنطبعة مثل الرصاص والصفر والنحاس والحديد.

الصنف الثاني: يُعبَّر عنه بالمعادن غير المنطبعة كالياقوت والفيروز والعقيق والبلُّور والسبج -الخرز الأسود - والكحل والزرنيخ.

الصنف الثالث: المعادن الجارية كالقار والنفط والكبريت.

وقد أجمع فقهاء الامامية على وجوب الخمس في مطلق المعادن.

وأمّا فقهاء السنة فاختلفوا في ذلك، فذهب أبو حنيفة(3) إلى وجوب خمس المعادن المنطبعة، ونَسب ابنُ قدامة القول بوجوب الخمس في المعادن إلى أبي عبيدة(4). ونُسب القول بوجوب الخمس في المعادن إلى المزني وإلى الشافعي في أحد أقواله(5)، ونُسب له القول بالتفصيل بين المعادن التي يحتاج إخراجها إلى مؤنة وبين التي لا تحتاج إلى مؤنة ففي الفرض الأول يجب ربع العشر وفي الثاني يجب الخمس(6).

ونسب إلى عمر بن عبد العزيز ومالك والأوزاعي القول بوجوب الخمس في المعادن إذا ما وجدت بدرة مجتمعة أو كان في أثر سيل وأومأ لذلك الشافعي في كتاب الأم(7).

المورد الثالث: الغوص وهو ما يُستخرج من البحر كاللؤلؤ والمرجان والعنبر وغير ذلك، وقد أجمع الإمامية على وجوب الخمس فيه، واختلف فقهاء السنة في ذلك فنُسب إلى الزهري والحسن وعمر بن عبد العزيز القول بوجوب الخمس(8)، وورد في صحيح البخاري أنَّ الحسن أي البصري قال: "في العنبر واللؤلؤ الخمس"(9).

المورد الرابع: الأرض إذا اشتراها الذمّي مِن المسلم وجب فيها الخمس بنظر الإماميَّة، ونسب إلى مالك وأهل المدينة أنها إن كانت عشرية مُنع من شرائها فإن اشتراها ضوعف العشر عليه فوجب عليه الخمس.

الأدلّة على عدم اختصاص الخمس بغنائم الحرب بعد الوقوف على أن الشيعة ليسوا وحدهم القائلين بعدم اختصاص وجوب الخمس بغنائم الحرب يصل بنا البحث في هذا المحور إلى بيان الأدلة على عدم الاختصاص، وهي من القرآن والسنة.

 

أمّا القرآن فقوله تعالى في سورة الأنفال: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ﴾(10).

فالآية المباركة ظاهرة في وجوب تخميس مطلق ما يغنمه الإنسان، ولا مبرِّر لتخصيصها بغنائم الحرب بعد أن كان مفاد قوله -غنمتم- لغة وعرفًا هو مطلق ما يستفيده الإنسان، وسوف نفصِّل الحديث عن مفاد الآية المباركة عند استعراض الأدلة على وجوب الخمس في أرباح المكاسب والتجارات.

وأمّا الروايات فمنها:

1- روى البخاري في صحيحه بسنده إلى أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: "العجماء جُبار والبئر جُبار، والمعدن جُبار وفي الركاز الخمس"(11).

2- روى النسائي أنَّ النبي (ص) قال: (ما لم يكن في طريق مأتي ولا قرية عامرة ففيه وفي الركاز الخمس(12).

ذكر ابن قدامة في المغني أن هذه الرواية رواها النسائي والجوزجاني وغيرهما، وأفاد أنَّ هذه الرواية هي مستند القائلين بوجوب الخمس في المعدن(13).

3- ذكر ابن قدامة في المغني أنَّه روي "ما كان في الخراب ففيه وفي الركاز الخمس"(14).

4- أورد ابن قدامة في المغني حديثًا عن النبي (ص): أنه قال: "وفي الركاز الخمس، قيل يا رسول الله وما الركاز؟ قال: هو الذهب والفضة المخلوقان في الأرض يوم خلقت السماوات والأرض"(15).

5- أورد ابن قدامة فـي المغنّي أنّ النبي (ص) قال: "وفي السيوب الخمس قال: والسيوب عروق الذهب والفضّة التي تحت الأرض"(16).

6- روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سئل رسول الله (ص) عن اللقطة؟ فقال: "ما كان في طريق مأتي أو في قرية عامرة فعرِّفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فلك، وما لم يكن في طريق مأتي ولا في قرية عامرة ففيه وفي الركاز الخمس"(17).

7- روى أحمد في مسنده عن أنس بن مالك قال: خرجنا مع رسول الله (ص) إلى خيبر فدخل صاحب لنا إلى خربة يقضي حاجته فتناول لبنة يستطيب بها فانهارت عليه تبرًا فأخذها فأتى بها النبي (ص) فأخبره بذلك، قال: زنها فوزنها فإذا مائتا درهم، فقال النبي (ص): "هذه ركاز وفيه الخمس"(18).

هذا بعض ما تيسَّر لنا نقله مِن الروايات الواردة من طرق السنَّة، وهي كما تلاحظون صريحة في وجوب الخمس في غير غنائم الحرب وقد عمل ببعضها كلّ فقهاء السنة وعمل ببعضها الآخر بعض فقهاء السنة.

الأدلّة على وجوب الخمس في أرباح المكاسب قلنا إنّ ما اختصّ به الإماميّة دون سواهم فيما يرتبط بالخمس هو القول بوجوب الخمس في أرباح المكاسب والتجارات والصناعات، وهو مورد الطعن من البعض رغم وضوح أن هذه المسألة من المسائل الفرعية الاجتهاديَّة والتي يجوز فيها الاختلاف حتّى مِن مذهب واحد، إلاَّ أنَّ مَن لا خبرة له بالفقه ولا معرفة له بالأحكام الشرعيّة يجعل مِن كلِّ شيء لا يتبنَّاه قومُه موردًا للطعن والتوهين متوهِّمًا أنَّ في ذلك انتصارًا لمذهبه، وما علم أنـّه يُسيء بذلك لنفسه بل ولمن يدَّعي الانتماء إليهم.

وكيف كان فقد استدلَّ الإماميَّة على وجوب الخمس في أرباح المكاسب بالقرآن الكريم والسنة الشريفة الواردة من طرق أهل البيت (ع) ولهم مع كلِّ ذلك ما يحتجون به من الروايات الواردة من طرق السنَّة.

أمّا الاستدلال بالقرآن الكريم:

فقوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ﴾(19).

والآية المباركة ظاهرة عرفًا بمقتضى إطلاقها في أن وجوب الخمس ثابت في كلِّ ما يغنمه الإنسان ويستفيده سواء تمَّت استفادته بواسطة الحرب أو كان قد استفاده بواسطة التكسُّب أو بغير ذلك من وسائل التحصيل والاستفادة.

ويمكن تأكيد هذا الاستظهار بمجموعة من القرائن:

الأولى: من مادة غَنِم.

الثانية: استعمال القرآن والسنة لهذه المادة في مطلق الفائدة.

الثالثة: عموم الخطاب.

الرابعة: فهم بعض مفسري السنة وفقهائهم العموم من الآية الشريفة.

أمّا القرينة الأولى: وهي المدلول اللغوي لمادة "غنم" الواردة في الآية الشريفة، فإنَّ كلمات اللغويين متفقة على إن مفادها هو مطلق الفوز بالشيء، ومعنى ذلك أن كلَّ ما يستفيده الإنسان ويتحصَّل عليه ويظفر به من أموال تدخل تحت عنوان أنه قد غَنِمها وفاز بالظفر بها.

وعليه تكون الأرباح والفوائد التي يفوز بها الإنسان من تجارته وسائر مكاسبه مشمول لمدلول مادة "غنم" وهذا المقدار لا ريب فيه عند اللغويين قاطبة، وكل من أراد التوثُّق من ذلك فعليه أن يراجع كلماتهم.

نعم وقع الإشكال في اختصاص كلمة الغنيمة بما يغنمه المسلمون من الكفار في الحرب، فادَّعى البعض إنّ لفظ الغنيمة بهذه الهيئة لا يُستعمل إلا في ذلك، وهذه الدعوى لو تمَّت فإنها لا تقتضي أن يكون مدلول الآية الشريفة هو اختصاص وجوب الخمس بغنائم الحرب، وذلك لأن هذه الهيئة لم تُستعمل في الآية والذي استعمل فيها إنما هو صيغة الفعل الماضي، وهو يقتضي إفادته لمدلوله الواسع الذي ذكره اللغويين، على أنه لم يثبت صيرورة لفظ الغنيمة حقيقة شرعية في غنائم الحرب بنحوٍ يكون لفظ الغنيمة مساوقًا شرعًا لغنائم الحرب، فإنَّ مَنِ ادَّعى ذلك فعليه أنْ يأتي بدليل يُثبت لنا به أنّ الشارع المقدّس قد اعتمد لفظ الغنيمة مصطلحًا شرعيًّا في غنائم الحرب، ومجرَّد استعمال لفظ الغنيمة في خصوص غنائم الحرب في بعض الموارد لا يعبِّر عن أنَّ الشارع قد تصرَّف في مدلول هذا اللفظ فضيَّق من دائرة مدلوله، إذ كثيرًا ما يُستعمل اللفظ ذو المدلول الواسع في بعض مصاديقه، إلاَّ أنَّ ذلك الاستعمال لا يُنتج استظهار إرادة المعنى الضيِّق في كلِّ موردٍ استعمل فيه المتكلم ذلك اللفظ إلا أن يأتي بقرينةٍ تعبِّر عن إرادة المعنى الضيِّق، وحينئذٍ تكون استفادة المعنى الضيِّق ناشئة من مجموع اللفظ والقرينة -بنحو تعدُّد الدالّ والمدلول-وهو ما يؤكّد عدم اعتماده اللفظ مجرَّدًا لإفادة المعنى الضيِّق.

ثمّ إنّه يمكن تأكيد عدم اختصاص لفظ الغنيمة أو على الأقل مادة غنم الواردة في الآية، يمكن تأكيد عدم اختصاصها بغنيمة الحرب بما ورد من استعمالٍ لها في الآيات والروايات الواردة عن النبي (ص) حيث استعملت في المدلول الواسع وهو ما يؤكد عدم اعتبار هذا اللفظ حقيقة شرعية في غنيمة الحرب، وسيأتي إيضاح ذلك في القرينة الثانية.

القرينة الثانية: وهي استعمال القرآن الكريم والسنَّة الشريفة لمادة غنم في المدلول الواسع ونذكر لذلك نماذج:

النموذج الأول: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾(20). المراد مِن المغانم في هذه الآية هو الأجر والثواب -كما أفاد المفسِّرون كالفخر الرازي(21)- وذلك بقرينة المقابلة لعرَض الحياة الدنيا، واستعمال الآية للمغانم في المعنى المذكور يؤكد ما ذكرناه من إفادة مادة غنم للمدلول الواسع الذي أشرنا إليه.

النموذج الثاني: ما ورد في النهاية لابن الأثير في مادة غنم أن رسول الله (ص) قال: "الرهن لمن له غنمه وعليه غرمه"، وقد أفاد في تفسيره أنَّ غُنمه بمعنى زيادته ونماؤه وفاضل قيمته(22).

وبه يتأكَّد ما ذكرناه من أن مادة غنم تعني مطلق الفوز بالشيء المقتضي لصدقها على أرباح المكاسب والتجارات.

النموذج الثالث: ما ورد أيضًا في النهاية لابن الأثير في مادة غنم أنَّ رسول الله (ص) قال: "الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة"، وأفاد في مقام تفسيره للحديث بقوله: "إنما سمّاه غنيمة لما فيه من الأجر والثواب"(23).

وهنا استعمل الحديث الشريف هيئة الغنيمة فيما يناسب المدلول اللغوي لمادة غنم.

وثمّة نماذج أخرى في الأحاديث النبوية استعملت فيها هذه المادّة فيما يُناسب المدلول اللغوي الواسع مثل:

ما رواه ابن ماجة في سننه في باب يقال عند إخراج الزكاة أنَّ رسول الله (ص) قال: "اللهم اجعلها مغنمًا ولا تجعلها مغرمًا"(24).

وما رواه في كنز العمال عن الديلمي عن أنس أن رسول الله (ص) قال: "غنيمتان غبنها كثير مِن الناس الصحّة والفراغ"(25).

وما ورد في مسند أحمد أنَّ رسول الله (ص) قال: "غنيمة مجالس الذكر الجنّة"(26)، وورد عنه (ص) في وصف شهر رمضان "غُنم للمؤمن"(27).

القرينة الثالثة: أنّ الخطاب في الآية الشريفة موجَّهٌ لعموم المؤمنين وليس لخصوص المقاتلين، وذلك يناسب أنْ يكون المراد من مادة غنم هو المدلول الواسع المقتضي لعدم اختصاص الخمس بغنائم الحرب.

والذي يؤكِّد عموم الخطاب بالإضافة إلى ما سبق الآية الشريفة وما لحقها من خطاباتٍ أنَّ أحدًا ممن ادَّعى اختصاص الغنيمة بغنائم الحرب لم يتمسَّك باختصاص الخطاب بالمقاتلين رغم أنَّه لو كان الخطاب كذلك لكان نافعًا بنحوٍ ما لإثبات دعواه، وعليه يكون عموم الخطاب في قوله تعالى: (واعْلَمُوا) واحدًا من القرائن التي تُساهم في استظهار إرادة جعل الخمس على مطلق ما يغنمه الإنسان ويستفيده من أموال.

القرينة الرابعة: أنّ بعض مفسري علماء السنَّة وبعض فقهائهم استظهر مِن الآية الشريفة المعنى الذي استظهرناه فالقرطبي -مثلاً- في تفسيره المسمَّى بالجامع لأحكام القرآن قال في مقام تفسير الآية الشريفة: " الغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي، ومن ذلك قول الشاعر:

وقد طوَّفت في الآفــاق حـتى رضيت مِن الغنيمة بالإياب

وقال آخر:

ومُطعم الغُنم يوم الغنم مُطعمه أنَّى توجَّه والمحروم محــروم

والمغنم والغنيمة بمعنىً، يقال غنم القوم غنمًا، واعلم أن الاتّفاق حاصل على أنَّ المراد بقوله: (غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ) مال الكفار إذا ظُفر به على وجه الغلبة والقهر، ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص على ما بيَّناه ولكن عُرف الشرع قيَّد اللفظ بهذا النوع، وسمَّى الشرع الواصل من الكفار إلينا من الأموال باسمين غنيمة وفيئًا"(28).

تلاحظون أنّ القرطبي استظهر مِن الآية الشريفة العموم وأنَّ مطلق ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي يقال له مغنمٌ وغنيمة، غايته أنّ المانع من اعتماد هذا الاستظهار بنظره هو الاتفاق، وإلاَّ فمقتضى اللغة كما أفاد هو عدم التخصيص.

وعليه فنحن ننقض على مدَّعي الظهور فيما التخصيص بما أفاده القرطبي، وأمَّا دعواه الاتِّفاق على إرادة التخصيص فسيأتي الجواب عليه.

ورد في كتاب روح المعاني للآلوسي في مقام تفسير الآية الشريفة ".. وغنم في الأصل من الغُنم بمعنى الربح، وجاء غنم غُنمًا بالضمّ وبالفتح وبالتحريك وغنيمة وغُنمًا بالضمّ، ثمَّ قال "وفسّروها بما أُخذ من الكفار قهرًا بقتال أو إيجاف" (29).

فهم فسَّروها على خلاف ما تقتضيه اللغة، ولعلَّ ذلك لدعوى الإجماع وبمجموع ما ذكرناه مِن قرائن يتأكد ما استظهرناه من الآية الشريفة وأنَّ ما عليه الإماميّة في وجوب الخمس في أرباح المكاسب هو ما يقتضيه إطلاق الآية الشريفة.

 

أدلة النافين لظهور الآية في الإطلاق

وقد استدلَّ النافون لظهور الآية الشريفة في الإطلاق وإنّها لا تدلُّ على أكثر من وجوب الخمس في غنيمة الحرب بأمورٍ ثلاثة:

الأول: دعوى الإجماع على تفسير الآية بذلك، وهذه الدعوى لو تمَّت فإنّها لا تكون حجّة علينا، وذلك لأنَّ حجيَّة الإجماع بنظر الإماميَّة منوط بإحراز كاشفيّة الإجماع عن قول المعصوم أو بإحراز اشتمال المجمعين على المعصوم (ع) وكلا الأمرين غير مُحرَز.

على أنَّ إحراز تماميّة الإجماع حتى بناء على الموازين المعتبرة عندهم غير متحقق نظرًا لصعوبة التعرُّف على آراء جميع فقهائهم خصوصًا مَن لم يكن له كتابٌ منهم أو قولٌ مأثور في ذلك، وهم كثير.

فإثبات دعوى الإجماع مع الإلتفات إلى أنَّ الكثير منهم لم يتصدَّ لشرح الآية الشريفة أو لم يتصدَّ للإفتاء فيما يرتبط بكتاب الخمس دونه خرط القتاد.

ثمَّ إنَّه كيف يسوغ لمنصفٍ أنْ يدَّعى الإجماع رغم أنَّ ما عليه أهل البيت (ع) وفقهاء الشيعة على خلاف ما قد تبانوا عليه، فإذا لم يكن الإمام السجّاد والباقر والصادق وسائر الأئمّة (عليهم السلام) مِن المعصومين فهم مِن فقهاء المسلمين، وهم يذهبون في فهم الآية الشريفة على خلاف ما يفهمونه وهكذا الحال بالنسبة للكثير من فقهاء الشيعة، إلاَّ أن يرى مدَّعي الإجماع أنَّ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وفقهاء الشيعة ليسوا مِن المسلمين!!

الثاني: وقوع الآية الشريفة في سياق آيات متصدّية لبعض شئون القتال، فقد سبق الآية مورد البحث قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾(30).

وقد لحـقها قوله تعـالى: ﴿إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ﴾(31).

فلأنَّ الآية واقعة في سياق آيات القتال فذلك يقتضي إستظهار المعنى المناسب للسياق، ولا شيء يناسب السياق إلا إرادة غنائم الحرب من قوله تعالى: ﴿غَنِمْتُم﴾.

وبتعبير آخر: لمَّا كانت الآية الشريفة متصدية لبيان بعض شئون القتال فذلك يقتضي إختصاص الحكم الوارد فيها بما يُناسب شأن القتال، وبه يتعيَّن إرادة غنائم الحرب من قوله تعالى: ﴿غَنِمْتُم﴾.

والجواب عن ذلك واضح، إذ أنَّ من الثابت في أصول الفقه أن المورد لا يُخصِّص الوارد، فلو سلَّمنا أنَّ مورد نزول الآية هو قتال الكفار فإنَّ ذلك لا يقتضي تخصيص العموم الوارد في الآية الشريفة، أي أنّ المورد ليس مِن موجبات تخصيص العمومات والإطلاقات وإلا لزم تخصيص عمومات وإطلاقات أكثر آيات القرآن الكريم إذ أنَّ أكثر الآيات المباركة نزلت في موارد خاصة ورغم ذلك نجد المسلمين يتمسكون بعموماتها.

وإذا أردت أنْ تتوثَّق مما ذكرناه فلاحظ كيف يتمسَّك الفقهاء بعمومات الآيات واطلاقاتها ثم لاحظ سبب نزول هذه العمومات وفي أيِّ سياقٍ من الآيات وقعت وستجد أنه لو كان المورد والسياق مقتضيًا لتخصيص العمومات لما صحَّ لهم التمسُّك بالآيات المطلقة الواردة في موردٍ خاص والواقعة في سياق خاص.

الاستدلال بالسنَّة الشريفة

استدلَّ فقهاء الشيعة الإماميّة على وجوب الخمس في أرباح المكاسب بالكثير من الروايات الصحيحة الواردة من طرق أهل البيت (ع) الذين أمر رسول الله (ص) بالتمسُّك بهم في حديث الثقلين(32)، وأفاد فيه أنّهم عدل القرآن، وأنَّهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض، وأنَّ التمسُّك بهم وبالقرآن الكريم -والذي هو الثقل الأكبر -أمانٌ مِن الضلال، هذا بالإضافة إلى الكثير مِن الروايات المؤدية إلى نفس مؤدّى حديث الثقلين.

فالفقهاء الشيعة اعتمدوا فيما تبانوا عليه من وجوب الخمس في أرباح المكاسب على ما ورد عن أهل البيت (ع) و لا بأس في نقل بعض ما ورد في ذلك:

1- موثقة سماعة قال سألت أبا الحسن (ع) عن الخمس؟ فقال: "في كلِّ ما أفاد الناس من قليلٍ أو كثير"(33).

2- معتبرة محمد بن الحسن الأشعري قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني (ع): أخْبرني عن الخمس أعَلى جميع ما يستفيد الرجل مِن قليلٍ وكثير مِن جميع الضروب، وعلى الصنّاع؟ وكيف ذلك؟ فكتب بخطِّه: (الخمس بعد المؤونة)"(34).

3- صحيحة علي بن مهزيار قال أبو علي بن راشد قلت له: أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقك فأعلمت مواليك بذلك، فقال بعضهم وأيُّ شيءٍ حقّه؟ فلم أدرِ ما أجيبه؟ فقال: "يجب عليهم الخمس"، فقلتُ: ففي أيِّ شيء؟ فقال: "في أمتعتهم وصنائعهم"، قلتُ: والتاجر عليه والصانع بيده؟ فقال: "إذا أمكنهم بعد مؤونتهم"(35).

4- صحيحة علي بن مهزيار قال: كتب إليه إبراهيم بن محمّد الهمداني أقرأني على كتاب أبيك فيما أوجبه على أصحاب الضياع إلى أن قال: فكتب وقرأه علي بن مهزيار عليَّ : عليه الخمس بعد مؤنته ومؤنة عياله وبعد خراج السلطان(36).

5- صحيحة علي بن مهزيار عن الإمام أبي جعفر (ع) ورد فيها: "فأمّا الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كلّ عام قال الله تعالى: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ﴾ لغنائم والفوائد يرحمك الله فهي الغنيمة يغنمها والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر، والميراث الذي لا يُحتسب من غير أبٍ ولا ابن (37).

6- معتبرة أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) قال كتبت إليه في الرجل يهدي إليه مولاه والمنقطع إليه هدية تبلغ ألفي درهم أو أقل أو أكثر، هـل عليه فيها الخمس؟ فكتب (ع): الخمس في ذلك، وعن الرجل يكون في داره البستان فيه الفاكهة يأكله العيال إنما يبيع منه الشيء بمائة درهم أو خمسين درهمًا، هل عليه الخمس؟ فكتب: "أمَّا ما أكل فلا، وأما البيع فنعم، هو كسائر الضياع"(38).

هذه بعض الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) وهي ظاهرة كما تلاحظون في تعلُّق وجوب الخمس في أرباح المكاسب ومطلق الفوائد.

روايات مِن طرق السنَّة

ثمّة روايات وردت مِن طرق السنة يمكن استظهار وجوب الخمس في أرباح المكاسب من إطلاقها:

منها: ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن أبي جمرة الضبعي قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: قدم وفدُ عبد قيس، فقالوا: يا رسول الله (ص) إنا هذا الحي من ربيعة، بيننا وبينك كفار مضر، فلسنا نصل إليك إلا في الشهر الحرام، فمرنا بأمرٍ نأخذ به وندعو إليه مَن وراءنا، قال: "آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع، الإيمان بالله وشهادة أن لا إله إلا الله -وعقد بيده- وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأنْ تؤدّوا لله خمس ما غنمتم"(39).

الواضح من هذه الرواية عدم إرادة خمس غنائم الحرب، ولو كانت مرادة مِن كلام النبي (ص) لكان ذلك بسبب دخولها تحت العموم، وإلاَّ فالقدر المتيقَّن مِن كلام الرسول (ص) هو غير غنائم الحرب، ذلك لأنَّ وفد عبد قيس أفادوا فيما أفادوا أنهم لا يتمكنون من الوصول إلى رسول الله (ص) خوفًا من كفار مضر القاطنين في طريقهم إلى رسول الله (ص) وإنهم إنما يتمكنون من الوصول إلى رسول الله (ص) في الشهر الحرام نظرًا لاحترام الكفار له، فإذا كانوا يخشون على أنفسهم من السفر إلى المدينة فكيف يحاربون الكفار عندهم فينتصرون عليهم ويأخذون منهم الغنيمة ثم يُخرجون خمسها!!

إنّ الرواية واضحة الدلالة في عدم إرادة خمس غنائم الحرب بعد الإلتفات إلى فرض الخطاب وما كان عليه وفد عبد قيس من ضعف وخوف، وبه يتبيَّن أنّ المراد من قوله (ص): "وأن تؤدوا لله خمس ما غنمتم .."(40) هو إيجاب الخمس في مطلق ما تظفرون به من فوائد كما هو مقتضى المدلول اللغوي.

ومنها: ما ورد من طرقهم أن رسول الله (ص) كتب إلى قبيلة جُهينة بن زيد: "أنّ لكم بطون الأرض وسهولها وتلاع الأودية وظهورها على أن ترعوا نباتها وتشربوا ماءها على أن تؤدّوا الخمس"(41).

فالظاهر من الرواية أنَّ متعلَّق الخمس الواجب عليهم أداؤه هو ما يستفيدونه من بطون الأرض وسهولها ونباتها ومائها.

ومنها: ما ورد في الطبقات الكبرى أنه (ص) كتب للفُجيع ومن تبعه: "مِن محمّد النبي للفُجيع ومَن تبعه وأسلم وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأطاع الله ورسوله وأعطى من المغانم خمس الله ونصر نبي الله وأشهد على إسلامه وفارق المشركين أنه آمنٌ بأمان الله وأمان محمّد (ص)"(42).

فالظاهر مِن الرواية أنَّ متعلَّق الخمس هو مطلق الفائدة كما هو مقتضى المدلول اللغوي للفظ المغانم، فلا مبرِّر لصرفها إلى مغانم الحرب بعد أن لم يكن سياقٌ يقتضي ذلك ولا سبب نزول كما هو في آية الخمس، على أن احتمال إرادة مغانم الحرب غير وارد في المقام، وذلك لأن الغرض من الخطاب هو الدعوة إلى الإسلام والالتزام بفرائضه، والمناسب أن الذي يخاطب بإخراج الخمس من غنائم الحرب إنما هو المسلم الذي يجاهد الكفار فيصيب منهم غنيمة، وهؤلاء بعدُ لم يُسلموا إلاّ أنْ تقولوا إنَّ وجوب الخمس ثابت لمطلق غنائم الحرب ولو كانت عدوانية، إذ أنَّ حروب هؤلاء لو وقعت فإنَّها لن تكون إلا عدوانية، والمفترض أنَّ غنائم الحرب التي يجب تخميسها إنما هي حرب المسلمين في مواجهة الكفار، وهذه لا تكون عادة إلا بإشرافٍ من النبي (ص) أو من ينوب عنه، وحينئذٍ سيتصدى هو -كما هو المتعارف- لإخراج خمس الغنيمة.

ومنها: ما ورد في الطبقات الكبرى أنه (ص) كتب إلى جنادة الأزدي وقومه ومن تبعه: "ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطاعوا الله ورسوله وأعطوا من المغانم خمس الله وسهم النبي (ص) وفارقوا المشركين فإنَّ لهم ذمّة الله وذمّة محمّد بن عبد الله"(43).

وثمّة مكاتيب أخرى للنبي (ص) إلى القبائل والملوك إشتملت على الأمر بالخمس، وهي بإطلاقها صالحة للتأكيد على صوابيَّة ما ندَّعيه من أنَّ الخمس يتعلَّق بمطلق ما يستفيده الإنسان ويربحه.

وبمجموع ما ذكرناه في المقام يتبيَّن للسائل الكريم أنَّ فقهاء الشيعة إنَّما يعتمدون فيما يُفتون به على كتاب الله وسنة رسوله (ص) وما ثبت صدوره عن أهل بيت رسول الله (ع)، فليس فيما يعتقدونه أو يُفتون به ما هو مستند إلى غير هذه المصادر، ومَن أراد التوثُّق مِن صوابيَّة ما ذكرناه فليراجع كتب العقيدة والفقه فإنَّه لن يجد فيما يستدلون به على متبنياتهم إلا القرآن أو ما ثبت صدوره عن رسول الله (ص) وأهل بيته (ع).

مصرف الخمس

وأمّا الجواب عن الشقّ الثاني مِن السؤال فهو أن َّعلماء الشيعة يصرفون الخمس في المصارف التي ذكرتها الآية الشريفة، أعني قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ (44).

فالخمس يُصنَّف على أسهمٍ ستّة كما أفادت الآية الكريمة، فسهم الله تعالى وسهم رسوله (ص) وسهم ذوي القربى يكون أمرها للنبي (ص) ثم الإمام بعده أو من ينوب عنه يصرفه في المصارف التي كان رسول الله (ص) يصرفها فيها، والأسهم الثلاثة المتبقية تُصرَف على الأيتام والمساكين وأبناء السبيل من بني هاشم، فلا يُعطى لأغنيائهم شيء من الخمس، فهو متمحِّض للأصناف الثلاثة المذكورة في الآية الشريفة.

ومستندنا في ذلك بالإضافة إلى الآية الشريفة هو الروايات الكثيرة -والتي تبلغ حدَّ التواتر -الواردة عن أهل البيت (ع)، على أنَّ ثمة روايات واردة من طرق السنة مفادها قريب من مضامين الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) والتي يعتمدها فقهاء الشيعة رضوان الله عليهم.

أمّا الروايات الواردة من طرقنا

فمنها: ما رواه الكليني بسنده إلى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) في قول الله عز وجل: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى﴾ قال: "هم قرابة رسول الله (ص) والخمس لله وللرسول (ص) ولنا"((45).

ومنها: ما رواه الكليني بسنده عن البزنطي عن الرضا (ع)، سئل عن قول الله عز وجلّ: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى﴾ فقيل له: "فما كان لله فلمَن هو؟ فقال: لرسول الله (ص) وما كان لرسول الله (ص) فهو للإمام"(46).

ومنها: ما رواه علي بن الحسين المرتضى بسند متّصل إلى علي بن أبي طالب (ع): "ويجري هذا الخمس على ستة أجزاء، فيأخذ الإمام منها سهم الله وسهم الرسول وسهم ذي القربى، ثم يقسِّم الثلاثة السهام الباقية بين يتامى آل محمد ومساكينهم وأبناء سبيلهم"(47).

ومنها: ما واره الشيخ الطوسي في التهذيب بسنده عن عبد الله بن بكير عن بعض أصحابه عن احدهما قال: "خمس الله للإمام، وخمس الرسول للإمام، وخمس ذوي القربى لقرابة الرسول الإمام، واليتامى يتامى آل الرسول والمساكين منهم وأبناء السبيل منهم، فلا يخرج منهم إلى غيرهم"(48).

ومنها: ما رواه العياشي بسندٍ متصل إلى الإمام جعفر بن محمد (ع) قال: "إنَّ الله لا إله إلا هو لمَّا حرَّم علينا الصدقة أبدلنا بها الخمس، فالصدقة علينا حرام والخمس لنا فريضة والكرامة لنا حلال"(49).

فالرواية الأولى أفادت أن المراد من ذي القربى في الآية الكريمة هم قرابة الرسول (ص) وبها يتبين مصرف الأسهم الثلاثة الأولى.

وأمّا الرواية الثانية فمفادها أنَّ من له صلاحية التصرُّف في سهم الله تعالى وسهم رسوله هو الرسول (ص) ثمّ من بعده الإمام (ع).

وأوضحت الرواية الثالثة مصرف الأسهم الثلاثة المتبقية حيث أفادت أنها تقسَّم بين يتامى آل محمد (ص) ومساكينهم وأبناء سبيلهم، ومعنى ذلك أن الأسهم الثلاثة المتبقية متمحِّضة للفقراء المنتسبين للرسول الكريم (ص).

وأمّا الرواية الرابعة فتصدَّت لبيان أن أمر التصرُّف في الأسهم الثلاثة الأولى بيد الإمام (ع)، والمراد من الإمام هو المعصوم المنصوص على إمامته، إذ أن ذلك هو معناه عند من صدر عنه الخطاب أعني الباقر أو الصادق (ع)، وهو المعنى الذي اقتضته الأدلة القطعية التي لا مورد لاستعراضها في المقام، كما تصدت الرواية لبيان مصرف الأسهم الثلاثة المتبقية وأنَّه لا يجوز صرفها على غير يتامى آل الرسول (ص) ومساكينهم وأبناء سبيلهم.

وأمّا الرواية الخامسة فهي متصدية لبيان ملاك جعل الخمس لآل الرسول (ص) وأنه لمَّا حرَّم الله تعالى عليهم الصدقة عوَّضهم عنها بالخمس، ومعنى ذلك أنّ مَن له حق الاستفادة من الأسهم الثلاثة هو مَن لو فُرض عدم انتسابه للرسول (ص) لكان مستحقًا للصدقة. وإنّه لما كان منتسبًا للرسول (ص) وكانت الصدقة عليه حرام رغم فقره صحَّ له الاستفادة من الأسهم الثلاثة، فالانتساب للرسول (ص) وحده غير كافٍ لاستحقاق الخمس بل لابد من اتّصافه بأحد العناوين الثلاثة المذكورة في الآية وهي اليتم المساوق للفقر والمسكنة والانقطاع في السفر وعدم وجدان ما يصرفه للعودة إلى وطنه وأهله.

وثمّة روايات أخرى كثيرة تعُطي نفس المضامين التي وردت في هذه الروايات، وثمة مضامين أخرى اشتملت عليها الروايات لا نجد حاجةً لاستعراضها وبيانها لخروج ذلك عن مورد الغرض.

الروايات الواردة من طرق السنَّة

1- ورد في صحيح البخاري بسنده عن جبير بن مطعم قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول الله (ص)، فقلنا يا رسول الله أعطيت بني المطَّلب مِن خمس خيبر وتركتنا ونحن بمنزلة واحدة منك، فقال رسول الله (ص): "إنما بنو المطّلب وبنو هاشم شيء واحد.

قال الليث حدّثني يونس، وزاد: "قال جبير ولم يقسِّم النبي (ص) لبني عبد شمس ولا لبني نوفل"(50).

2- ورد في صحيح البخاري بسنده عن جبير بن مطعم قال: "قسّم رسول الله (ص) سهم ذوي القربى لبني هاشم وبني عبد المطلب من الخمس"(51).

3- ورد في صحيح مسلم عن يزيد بن هرمز قال كتب نجدة بن عامر الحروري الخارجي إلى ابن عباس قال: ابن هرمز وشهدتُ ابن عباس حين قرأ الكتاب وحين كتب جوابه، وقال ابن عباس: "والله لولا أن أرده عن نتنٍ يقع فيه ما كتبت إليه ولا نعمة عين. قال فكتب إليه إنَّك سألتني عن سهم ذي القربى الذين ذكرهم الله مَن هم؟ وإنَّا كنَّا نرى أن قرابة رسول الله (ص) هم نحن فأبى علينا قومنا"(52).

4- روي عن أبي العالية الرياحي كان رسول الله (ص) يؤتى بالغنيمة فيقسِّمها على خمسة فتكون أربعة أخماس لمن شهدها، ثم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيأخذ منه الذي قبض كفُّه فيجعله للكعبة، وهو سهم الله ثم يقسِّم ما بقي خمسةَ أسهم فيكون سهم للرسول وسهم لذي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل قال والذي جعله للكعبة فهو سهم الله(53).

5- روى مسلم في صحيحه أن الفضل بن عباس وربيعة بن عبد المطلب أتيا النبي (ص) فتكلم أحدهما، فقال: يا رسول الله أنت أبرُّ الناس وأوصل الناس، وقد بلغنا النكاح فجئنا لتؤمِّرنا على بعض هذه الصدقات فنؤدي إليك كما يؤدي الناس ونُصيب كما يُصيبون .. قال ثمّ قال: إنَّ الصدقة لا تحلُّ لآل محمد إنما هي أوساخ الناس، ادعوا لي محميَّة، وكان على الخمس ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، قال: فجاءه فقال لمحميَّة: "أنكح هذا الغلام ابنتك -الفضل بن العباس-فأنكحه، وقال: لنوفل بن الحارث أنكح هذا الغلام ابنتك يعني ربيعة بن عبد المطلب، وقال لمحميَّة: أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا، وقال (ص): "ما لي مما أفاء الله عليكم إلاَّ الخمس، والخمس مردود عليكم"(54).

6- روى مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب (ع) قال: كان شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان رسول الله (ص) أعطاني شارفًا من الخمس يومئذٍ "(55).

هذا وقد أجمع المسلمون على أن رسول الله (ص) كان يختص بسهم من الخمس وكان يخص أقرباءه بسهم آخر منه، وبقي على ذلك إلى أن رحل إلى ربه(56) فكان من الخليفة الأول وكذلك الخليفة الثاني أن أسقطا هذين السهمين بعد وفاته تأولاً منهما واجتهادًا في مقابل النصّ(57)، وكأنه يسوغ للمجتهد أن يُعمِل رأيه في مقابل النص كالآية الشريفة وقول النبي (ص) وسيرته.

7- روي عن ابن عباس: "كان رسول الله (ص) يقسِّم الخمس على ستة: لله وللرسول سهمان وسهم لأقاربه حتى قبض"(58).

8- روى الطبري: "كان آل محمد (ص) لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس، وقال: قد علم الله أنَّ في بني هاشم الفقراء فجعل لهم الخمس مكان الصدقة"(59).

تلاحظون أن مجموع الروايات التي نقلناها تشترك في معنى واحد وهو أنَّ سهم ذي القربى حق لقرابة الرسول (ص) وأنَّه لا يصح صرفه في غيرهم، ومفاد الرواية الخامسة والثامنة حرمة الصدقة على قرابة الرسول (ص) وأنَّ الله تعالى عوضهم عنها بالخمس، ومفاد الرواية السابعة هو أنّ الأسهم الثلاثة تُصرف على قرابة الرسول (ص)، إذ أنَّ ذلك هو مقتضى إعتبار الأسهم المتبقية بعد سهم الله وسهم الرسول (ص) سهمًا واحدًا رغم أنَّه كان في مقام بيان مصرف الأسهم الستة.

كما أنَّ ذلك هو مقتضى التعويض عن الصدقة بالخمس إذ أن غير الفقير لا يصح تعويضه إذ لا حقّ له في الصدقة على أيِّ تقدير، فالمناسب لروايات التعويض وهي كثيرة أن الأسهم الثلاثة تكون لفقراء آل الرسول (ص) عوضًا عن الصدقة التي حُرموا منها، وبذلك يتعيّن صرف الأسهم الثلاثة المتبقية على يتامى الرسول ومساكينهم وأبناء سبيلهم.

وبما ذكرناه يتبيّن للسائل الكريم أنَّ علماء الشيعة يصرفون الخمس فيما كان يصرفه رسول الله (ص) في المصارف التي ذكرتها الآية الشريفة.

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: تساؤلات في الفقه والعقيدة

الشيخ محمد صنقور


1- المغني لابن قدامة الحنبلي: ج1 / 562-563.

2- الفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيري: ج1 / 555.

3- بدائع الصنائع: 2 /67، فتح العزيز: 6 / 88، الشرح الكبير: 2 /582 و 583، حلية العلماء: 3 / 112.

4- المغني لابن قدامة: ج1/563.

5- الهداية للمرغيناني: 1 / 108، الوجيز: 1/96، فتح العزيز: 6/89، المهذب للشيرازي: 1/169، المجموع 6/38، حلية العلماء: 3: 113، الشرح الكبير: 2: 583، المغني: ج1.

6-

7- المغني لابن قدامة الحنبلي: ج1 / 566، الشرح الكبير: ج2 / 587.

8- صحيح البخاري كتاب الزكاة، باب ما يستخرج من البحر: 65.

9- الشرح الكبير: 2 / 579، المغني: ج1.

10- سورة الأنفال / 41.

11-صحيح البخاري كتاب الزكاة باب في الركاز الخمس: 1499، أخرجه مسلم أيضًا في صحيحه: 1710.

12- سنن النسائي: 5/44، الشرح الكبير: 2 / 583.

13- المغني لابن قدامة الحنبلي: ج1 / 565.

14-سنن النسائي: 5 / 44، الشرح الكبير: ج2 / 583 قال رواه النسائي والجوزجاني، المغني.

15- المغني لابن قدامة الحنبلي: ج1 / 565.

16- المغني لابن قدامة الحنبلي: ج1 / 565.

17-المغني لابن قدامة الحنبلي: ج1 / 565.

18- مسند أحمد: 3 / 128.

19- سورة الأنفال / 41.

20- سورة النساء / 94.

21-التفسير الكبير للفخر الرازي.

22- النهاية لابن الأثير مادة غنم.

23- النهاية لابن الأثير مادة غنم، كنز العمال للمتقي الهندي رواه عن عامر بن مسعود: ج2 / 126 رقم 35210.

24- سنن ابن ماجه كتاب الزكاة باب ما يقال عند إخراج الزكاةج: 1797.

25- كنز العمال للمتقي الهندي رواه عند الديلمي عن أنس ج1/273 رقم 6458.

26- كنز العمال للمتقي الهندي رواه عن ابن عمر: ج1 / 103 رقم 1793

27- مسند أحمد: ج2/177.

28- تفسير القرطبي المسمى بالجامع لأحكام القرآن: ج8 /3.

29- روح المعاني للألوسي: ج5 / 200.


30- سورة البقرة / 139.

31- سورة الأنفال / 42.

32- حديث الثقلين حديث متواتر ذكر ابن حجر في الصواعق: 136. ولهذا الحديث طرق كثيرة عن بضع وعشرين صحابيًا لا حاجة لنا ببسطها، وقال السمهودي كما أفاد المناوي في فيض الغدير: ج3 / 14، وفي الباب ما يزيد عن عشرين من الصحابة.

هذا وقد رواه مسلم في فضائل الصحابة في باب فضائل عليابن أبي طالب عن يزيد بن حيان، ورواه بأسانيد أخرى عن زيد بن أرقم، ورواه الترمذي في صحيحه: ج2 / 308. بأكثر من طريق، ورواه الحاكم النيسابوري في مستدرك الصحيحين بطرق متعددة: ج3 / 109 و ج3/148، ورواه أحمد في مسنده ج4 /471-ج5 / 181-ج4/366، ورواه الطحاوي في مشكل الآثار ج4 / 368، ورواه النسائي في الخصائص: 21، ورواه أبو نعيم. في حلية الأولياء: ج9 / 64، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد: ج9 / 163-164 ورواه ابن حجر في الصواعق المحرقة: 75، ورواه المتقي الهندي في كنز العمال ج / 48.

وقال: أخرجه ابن أبي شيبة والخطيب في المتفق والمفترق عن جابر، ورواه ابن الأثير الجزري في أسد الغابة: ج2 / 12، ورواه السيوطي في الدر المنثور في ذيل آية المودة في سورة الشورى وقال أخرجه ابن الأنباري في المصاحف ورواه غير هؤلاء وهم كثير.

33- وسائل الشيعة باب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس ح6.

34- وسائل الشيعة باب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس ح.

35- وسائل الشيعة باب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس ح3.

36- وسائل الشيعة باب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس ح4.

37- وسائل الشيعة باب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس ح5.

38- وسائل الشيعة باب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس ح10.

39- صحيح البخاري باب أداء الخمس من الدَّين ورواه مسلم في صحيحه في باب الأمر بالإيمان.

40- نفس المصدر.

41- الوثائق السياسية: 265 / 157.

42- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج1 / 274، الإصابة لابن حجر: ج4 / 696، أسد الغابة لابن الأثير ج4 / 157.

43- الطبقات الكبرى: ج1 / 270، جمع الجوامع للسيوطي في مسند عمرو بن حزم، كنز العمال: ج5 / 320 رقم: 5785.

44- سورة الأنفال / 41.

45- وسائل الشيعة باب 1 من أبواب قسمة الخمس ح5.

46- وسائل الشيعة باب 1 من أبواب قسمة الخمس ح6.

47- وسائل الشيعة باب 1 من أبواب قسمة الخمس ح12.

48- وسائل الشيعة باب 1 من أبواب قسمة الخمس ح2.

49- وسائل الشيعة باب 29 من أبواب المستحقين للزكاة ح7.

50- صحيح البخاري كتاب المغازي باب 38 غزوة خيبر.

51- صحيح البخاري 7/474 كتاب المغازي غزوة خيبر 4229، أحمد: 4/81.

52- صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير باب 48، 1444.

53- أحكام القرآن للجصاص: 3 / 6، تفسير الطبري: ج10/ 4، الأموال لأبي عبيد: 325.

54- صحيح مسلم كتاب الزكاة باب ترك استعمال آل النبي على الصدقة: 51.

55- صحيح مسلم: 3/1568 و 7979.

56- راجع الكشاف للزمخشري: ج2 / 158، فتح القدير للشوكاني: ج2 / 295، تفسير الطبري ج8 / 10، تفسير الطبري: ج 10 / 4-5-7، تفسير القرطبي ج8/10، الدرّ المنثور للسيوطي ج3/1 186، سنن النسائي كتاب الفيء باب 1 ج7/1 122، تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري ج10، الأموال لأبي عبيد ص 325 و 14، أحكام القرآن للجصاص ج3/60، الأحكام السلطانيّة للماوردي ص1 171، الأحكام السلطانيّة لأبي يعلى ص1 185، شرح صحيح مسلم للنووي ج12/82 باب حكم الفيء من كتاب الجهاد، تفسير المنارج10/15 و 16.

57- راجع الكشاف للزمخشري: ج2 / 159، تفسير الطبري: ج10 /6، تفسير القرطبي: ج8 / 10، فتح القدير للشوكاني ج2 / 295، الدرّ المنثور: ج3 / 187، سنن النسائي كتاب الفيء باب 1 ج 7 / 121، شرح النهج لابن أبي الحديد: ج16 / 230-231 و ج 12 / 83.

58- تفسير النيسابوري المطبوع بهامش الطبري: ج10/4.

59- تفسير الطبري: ج10/4.