تبيُّن فسق الشاهدين بعد الحكم واستيفائه
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
إذا حكم القاضي بحكمٍ في شأنٍ من الشؤون استناداً إلى شهادة الشهود ثم تبيَّن له فسقُهم حين أداء الشهادة فهل يبطل حكمه؟ وعلى مَن تكون الآثار المترتِّبة على الحكم؟
الجواب:
الظاهر أنَّه لا إشكال في بطلان الحكم المُسنِد إلى شهادة الفسَّاق، فحكمُ القاضي إنَّما يكون ناجزاً في فرض استناده إلى بيِّنةٍ شرعية، وحيث إنَّ شهادة الفسَّاق ليست بيِّنة شرعيَّة لذلك يكون الحكم المستنِد إليها باطلاً لبطلان مستنده. أو قل هو باطلٌ لكونه حكماً بلا مستند، إذ أنَّ شهادة الفساق فاقدة للاعتبار والحجيَّة فهي بمثابة العدم شرعاً، فكأنَّ القاضي حكم بلا مستندٍ ولهذا يكون حكمه لاغياً.
وعليه فتارة يكون الحكم متَّصلاً بحقٍّ ماليٍّ وأخرى يكون متَّصلاً بموجبٍ من موجبات الحدود أو القصاص.
أمَّا في الفرض الأول وهو ما لو حكم القاضي- مثلاً- بمالٍ للمدَّعي على المدَّعى عليه استناداً إلى شهادة فاسقين ثم تبيَّن له فسقُ الشاهدين بعد أنْ استوفى المدَّعي المال من المدَّعى عليه فهنا يتعيَّن على المدَّعي ردُّ المال إلى المدَّعى عليه إذا كان قائماً ولم يتلف وذلك لأنَّ المال – نظراً لبطلان الحكم- باقٍ على ملك صاحبه فيحقُّ له استردادُه كما هو بعينه.
وأمَّا إذا أتلفه فيتعيَّن عليه ضمانُ قيمته للمالك -المدَّعى عليه- إذا كان المالُ قيميَّاً وضمانُ مثله إذا كان المالُ مثليَّاً، والوجهُ في تعيُّن الضمان عليه واضح فهو المتلِف للمال - بحسب الفرض - ومن أتلفَ مال غيره فهو له ضامن.
وأمَّا الشاهدان فليس عليهما ضمان، إذ أنَّهما لم يتراجعا عمَّا شهدا به ولم يثبت أنَّهما شهدا زوراً، غايتُه أنَّ شهادتهما لم تكن معتبرة شرعاً وتمَّ الاستناد إليها لاعتقاد الحاكم خطأً بعدالتهما، ولهذا لا موجبَ للحكم بضمانهما بعد أنْ لم يكونا المباشرين لإتلاف المال ولم يكونا سبباً في إتلافه، فالمُتلِف للمال هو المدَّعي والسبب هو حكم الحاكم الذي أخطأ باعتقاده حجيَّة شهادتهما.
وأمَّا الفرض الثاني وهو ما لو كان الحكم متَّصلاً بموجبٍ من موجبات الحدود أو القصاص كما لو حكم القاضي على أحدٍ بالقصاص استناداً إلى شهادة شاهدين فتمَّ تنفيذُ الحكم بحقِّه ثم تبيَّن للقاضي فسقُ الشاهدين حال الأداء للشهادة ففي مثل هذا الفرض تارةً يكون المباشر للقصاص وليَّ الدم، وأخرى يكون المباشر للقصاص المأذون من الحاكم الشرعي.
فإذا كان المباشر للقصاص هو الولي -باعتبار استحقاق وليِّ الدم لاستفاء حقِّ القصاص بنفسه بعد حكم الحاكم- فيجب عليه في مثل هذا الفرض أداءُ الدية لأولياء المقتول المتهم وذلك لكونه المباشر للقتل فتشملُه أدلة القتل الشبيه بالعمد، فهو وإنْ كان قد قتله متعمِّداً إلا أنَّه نشأ عن اعتقاده بجواز ذلك وأنَّه يستوفي حقَّاً له مشروعاً، ولهذا لا يكون القتل عدوانياً فلا يُصنف ضمن قتل العمد ولكنَّه من القتل الشبيه بالعمد الموجب للدية .
وأمَّا لماذا لا تكون الدية من بيت المال باعتبار أنَّ القتل وقع عن حكم الحاكم فلأنَّ القتل لم ينشأ عن أمر الحاكم، فالحاكم إنَّما حكم بالاستحقاق فكان للوليِّ أن يعفو وله أن يطالب بالدية وله أنْ يقتص، فهو مَن اختار القصاص، فالقتل لم يصدر عن الحاكم وإنَّما صدر عن اختيار القاتل للقصاص فالدية تكون بعهدته وليست بعهدة بيت المال.
وإذا كان المباشر للقصاص هو المأذون من قبل الحاكم الشرعي فكذلك تجب الدية لأولياء المقتول " المتهم" وذلك لأنَّه لا يذهب دم امرءٍ مسلم هدراً، نعم لا يتحمل أداء الدية المأذون من قِبَل الحاكم الشرعي الذي باشر القتل وكذلك لا يتحمَّلها الحاكم نفسه وإنَّما تؤدَّى الديةُ لأولياء المقتول من بيت مال المسلمين دون خلاف -ظاهراً- بين الفقهاء في ذلك إلا ما يُنسب للحلبي (1) من أنَّ الحاكم الشرعي هو مَن يتحمَّل أداء الدية من ماله .
والوجه في عدم تحمل المأذون أو الحاكم للدية – كما أفاد السيد الخوئي (2)- هو أنَّ إذن الحاكم للمباشر بالقتل كان شؤون الحكومة المجعولة لحفظ المصالح العامة، فلو كان البناء هو إلزام المأذون أو الحاكم بتدارك ما يتفق من أخطاء في الحكومة من أموالهما لأدى ذلك إلى ترك التصدِّي للحكومة والقضاء خشية الوقوع في ضرر التدارك للأخطاء التي لابد من اتفاق وقوعها وبذلك ينسدُّ باب الحكومة والقضاء والتي هي من ضرورات الأمن والنظام.
وكذلك يدلُّ على أنَّ الدية في الفرض المذكور تُؤدَّى من بيت مال المسلمين ما ورد في موثقة أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) أَنَّ مَا أَخْطَأَتِ الْقُضَاةُ فِي دَمٍ أَوْ قَطْعٍ فَعَلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ"(3)
وما ورد في معتبرة الأصبغ بن نباته قال: قضى أميرُ المؤمنين ( عليه السلام ) أنَّ ما أخطأت القضاةُ في دمٍ أو قطعٍ فهو على بيت مال المسلمين"(4)
فالروايتان ظاهرتان في المطلوب وأنَّ دية القطع أو الدم المترتِّبة عن خطأ القضاة تُؤدَّى من بيت مال المسلمين، نعم قد يُقال إنَّ مقتضى إطلاق الروايتين هو تحمُّل بيت مال المسلمين للدية حتى في فرض كون المباشر للقتل هو الولي وذلك لأنَّ مباشرته للقتل كان عن حكم القاضي .
إلا أنَّ الصحيح -كما أفاد السيد الخوئي(5)– هو عدم دلالة الرواية على أكثر من تدارك بيت مال المسلمين لخطأ القاضي، وذلك لا يشمل فرض تصدِّي الوليِّ لقتل المتَّهم، لأنَّ قتله إياه كان من اختياره ولم يكن بأمرٍ من القاضي، فالقاضي إنَّما حكم بكون المتهم قاتلاً فكان للولي القصاص وله العفو أو المطالبة بالدية فهو مَن اختار القصاص وباشره، فالخطأ الذي وقع فيه الولي ليس مستنِداً لخطأ القاضي وإنَّما هو مستنِد لاختيار الولي، ولهذا لا يكون هذا الفرض مشمولاً لمعتبرتي أبي مريم والأصبغ بن نباتة لأنَّ مفادهما هو تحمُّل بيت المال لدية القتل المستنِد لخطأ القاضي.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
7 من ذي القعدة 1446ه
5 مايو 2025م
----------------
1-كشف اللثام- الفاضل الهندي-ج10/ 379.
2- مباني تكملة المنهاج - السيد الخوئي- ج 41/ 197.
3-الكافي- الكليني- ج7/ 354، وسائل الشيعة- الحر العاملي- ج 29/ 147.
4- وسائل الشيعة- الحر العاملي-ج 27/ 226.
5- مباني تكملة المنهاج - السيد الخوئي- ج 41/ 197. 198