الأفضل في الأخيرتين القراءة أو التسبيح؟

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ما هو الأفضل في الركعتين الأخيرتين القراءة أو التسبيح؟

الجواب:

اختلف الفقهاء في ذلك فذهب جمع إلى أفضلية التسبيح مطلقاً للإمام والمأموم والمنفرد، وذهب جمع منهم إلى أفضلية القراءة مطلقاً وذهب بعضهم إلى أفضليَّة القراءة لخصوص الإمام، وذهب آخرون إلى التساوي في الأفضليَّة مطلقاً، ومنشأ الاختلاف في ذلك هو اختلاف مؤدَّى الروايات.

مستند القول بأفضلية التسبيح مطلقاً:

أمَّا القول بأفضلية التسبيح مطلقاً فنسب إلى ابن أبي عقيل والصدوقين وابن إدريس، وجملة من متأخري المتأخرين(1) ويمكن الاستدلال له بروايات عديدة:

منها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال عشر ركعات ركعتان من الظهر وركعتان من العصر وركعتا الصبح وركعتا المغرب وركعتا العشاء الآخرة .. فزاد النبيُّ صلى الله عليه وآله في الصلاة سبع ركعات هي سنة ليس فيهنَّ قراءة إنَّما هو تسبيح وتهليل وتكبير ودعاء .."(2).

فالرواية وإنْ كانت ظاهرة في تعيُّن التسبيح في الركعتين الأخيرتين إلا أنَّ مقتضى الجمع بينها وبين ما دلَّ على مشروعيَّة القراءة هو حمل الأمر بالتسبيح المستفاد من الرواية على الاستحباب بل هي ظاهرة في أنَّ التسبيح هو المأمور به ابتداء غايته أن القراءة تجزي عنه بمقتضى الجمع.

ومنها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: لا تقرأنَّ في الركعتين الأخيرتين من الأربع الركعات المفروضات شيئاً إماماً كنتَ أو غير إمام قال: قلت: فما أقول فيهما؟ قال: إذا كنتَ إماما أو وحدك فقل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ثلاث مرات تكمله تسع تسبيحات ثم تكبر وتركع"(3).

موضع الاستدلال بالرواية قوله (ع): "لا تقرأن في الركعتين الأخيرتين من الأربع الركعات المفروضات شيئا إماماً كنتَ أو غير إمام" فقوله "أو غير إمام" يشمل المأموم والمنفرد فيكون المنهي عن القراءة هم كلٌ من الإمام والمأموم والمنفرد، والنهي عن القراءة وإنْ كان ظاهراً في نفي المشروعيَّة إلا أنَّ مقتضى الجمع بينها وبين الأخبار الأخرى يكون المستظهَر من النهي هو المرجوحيَّة بالإضافة إلى التسبيح. فاختيار التسبيح في الراجح.

ومنها: صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا قمتَ في الركعتين الأخيرتين لا تقرأ فيهما فقل: الحمد لله وسبحان الله والله أكبر"(4)

فكلمة "لا" في قوله (ع): "لا تقرأ فيهما" إمَّا أن تكون ناهية فتكون ظاهرة بدواً في نفي مشروعيَّة القراءة وبمقتضى الجمع بينها وبين ما دلَّ على مشروعيَّة القراءة هو حمل النهي على مرجوحيتها فيكون الراجح هو اختيار التسبيح.

وقد تكون جملة "لا تقرأ فيهما" صفة للركعتين الأخيرتين وهي كذلك ظاهرة في أنَّ القراءة ليست هي الوظيفة المأمور بها وبمقتضى الجمع بينها وبين الروايات الدالة على إجزاء القراءة تكون النتيجة هي أنَّ القراءة وإن كانت مجزية ولكنَّها خلاف المأمور به ابتداءً أي أنَّها خلاف الأفضل.

ومنها: صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال كان أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا صلَّى يقرأ في الأولتين من صلاته الظهر سرَّاً، ويُسبِّح في الأخيرتين من صلاته الظهر على نحو من صلاته العشاء، وكان يقرأ في الأولتين من صلاته العصر سرَّاً ويُسبِّح في الأخيرتين على نحو من صلاته العشاء"(5) فإنَّ ظاهر الرواية هو مداومة الإمام أمير المؤمنين (ع) على اختيار التسبيح في فرائضه وهو ما يدلُّ على استحبابه. وثمة روايات أخرى ظاهرة في استحباب التسبيح مطلقاً للمنفرد والإمام والمأموم.

مستند القول بأفضلية القراءة مطلقاً:

وأما القول بأفضلية القراءة مطلقاً فنسب إلى أبي الصلاح تقي بن نجم الحلبي والشهيد في اللمعة والسيد صاحب المدارك(6) ويمكن أن يكون مستند هذا القول روايتان:

الرواية الأولى: رواية محمد بن حكيم قال: "سألت أبا الحسن (عليه السلام) أيّهما أفضل القراءة في الركعتين الأخيرتين أو التسبيح؟ فقال: القراءة أفضل"(7) فهذه الرواية وإن كانت صريحة في أفضلية القراءة على التسبيح إلا أنَّها ضعيفة السند لاشتماله على محمد بن الحسن بن علان وهو مجهول.

الرواية الثانية: رواية الاحتجاج للطبرسي عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري عن صاحب الزمان (عليه السلام) أنَّه كتب إليه يسأله عن الركعتين الأخيرتين قد كثرت فيهما الروايات فبعض يرى أنَّ قراءة الحمد وحدها أفضل، وبعض يرى أن التسبيح فيهما أفضل، فالفضل لأيِّهما لنستعمله؟ فأجاب (عليه السلام) قد نسخت قراءة أم الكتاب في هاتين الركعتين التسبيح والذي نسخ التسبيح قول العالم (عليه السلام) كل صلاة لا قراءة فيها فهي خداج إلا للعليل أو من يكثر عليه السهو فيتخوف بطلان الصلاة عليه"(8) وهذه الرواية وإن كانت ظاهرة في أفضليَّة القراءة على التسبيح لكنها مرسلة. فالقول بأفضلية القراءة مطلقاً في الركعتين الأخيرتين لا دليل عليه.

مستند القول بأفضلية القراءة للإمام:

وأما القول بالتفصيل فثمة من ذهب لأفضلية القراءة للإمام خاصة والظاهر أنَّ مستنده في ذلك هو صحيحة معاوية ابن عمار "عن القراءة خلف الإمام في الركعتين الأخيرتين، فقال: الإمام يقرأ بفاتحة الكتاب ومن خلفه يسبِّح، فاذا كنت وحدك فاقرأ فيهما وإن شئت فسبّح"(9).

وصحيحة منصور بن حازم "إذا كنت إماماً فاقرأ في الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب وإن كنت وحدك فيسعك فعلت أو لم تفعل"(10).

فإنَّ ظاهرهما هو تعيُّن القراءة في الركعتين الأخيرتين على الإمام إلا أنَّه ورد ما يظهر منه بدواً المنافاة لمفاد الروايتين وهي صحيحة سالم أبي خديجة عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام) قال: "إذا كنت إمام قوم فعليك أنْ تقرأ في الركعتين الأولتين، وعلى الذين خلفك أنْ يقولوا: سبحان اللَّه والحمد للَّه ولا إلَه إلّا اللَّه واللَّه أكبر وهم قيام، فإذا كان في الركعتين الأخيرتين فعلى الذين خلفَك أنْ يقرؤوا فاتحة الكتاب وعلى الإمام أنْ يُسبّح مثل ما يُسبّح القوم في الركعتين الأخيرتين" فإنَّ ظاهر هذه الصحيحة هو تعيُّن التسبيح على الإمام ومقتضى الجمع العرفي بين الصحاح الثلاث هو رفع اليد عن ظهورها في التعيين فتكون النتيجة هي التخيير ومن ذلك يتَّضح أنَّ لا موجب لحمل صحيحتي معاوية ومنصور على التقية لعدم استحكام التعارض بينهما وبين صحيحة سالم بعد إمكان الجمع العرفي.

هذا وقد أفاد السيد الخوئي رحمه الله(11) باستحكام التعارض وذلك لأنَّ الصحيحتين صرحتا بالتخيير للمنفرد في مقابل الإمام أي أنَّها فصلت بين الإمام والمنفرد والتفصيل قاطع للشركة، ولهذا لا يمكن حمل الأمر بالقراءة للإمام على الوجوب التخييري بل يتعين الاحتفاظ بظهورها في وجوب القراءة تعييناً على الإمام فتكون معارضة لصحيحة سالم والتي يظهر منها تعين التسبيح على الإمام.

ومع البناء على استحكام التعارض يكون حمل الصحيحتين على التقية متجهاً وذلك لأنَّ العامَّة ملتزمون بالقراءة في الركعتين الأخيرتين، ولا يرد على هذا الحمل ما قيل من أنَّ مذهب العامة أو بعضهم هو البناء على أفضلية القراءة في الأخيرتين وليس تعيُّنها، فإنَّ ذلك لا يمنع من حمل الصحيحتين على التقية إذ لا إشكال في أنَّهم ملتزمون عملاً بالقراءة وذلك كافٍ في صحة حمل الصحيحتين على ما يقتضيه التزام العامة في الركعتين الأخيرتين. فلا دليل على أفضليَّة القراءة للإمام.

ما هو الأقضل للمأموم:

وأما المأموم فيظهر من صحيحة معاوية بن عمَّار تعيُّن التسبيح قال: سألتُ أبا عبد اللَّه (عليه السلام) عن القراءة خلف الإمام في الركعتين الأخيرتين‏؟ فقال: الإمام يقرأ بفاتحة الكتاب ومَن خلفه يُسبّح" وكذلك هو الظاهر من صحيحة سالم بن أبي خديجة عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام) حيث ورد فيها: "وعلى الإمام أنْ يُسبّح مثل ما يُسبّح القوم في الركعتين الأخيرتين" فإنَّ ظاهر الفقرة المذكورة هو المفروغيَّة عن كون وظيفة المأموم في الأخيرتين هو التسبيح.

نعم ورد في صحيحة عبد الله بن سنان أنَّ وظيفة المأموم في الركعتين الأخيرتين من الصلوات الإخفاتية هو التخيير بين القراءة والتسبيح قال: قال أبو عبد اللَّه (عليه السلام): إنْ كنتَ خلف الإمام في صلاة لا يُجهرُ فيها بالقراءة حتى يفرغ، وكان الرجل مأموناً على القرآن فلا تقرأ خلفَه في الأولتين، وقال يُجزئك التسبيح في الأخيرتين، قلتُ: أيّ شيء تقولُ أنتَ؟ قال: أقرأ فاتحة الكتاب"(12)

فإنَّ الظاهر من قوله (ع): "يُجزئك التسبيح في الأخيرتين" هو التخيير، ويُؤيده سؤال ابن سنان للإمام (ع) عمَّا يفعله، فلو كان المستظهَر من جوابه الأول تعيُّن التسبيح لم يكن معنى لسؤال الإمام (ع) عمَّا يفعله هو، فسؤال الإمام عمَّا يفعله كان لغرض التعرُّف على ما هو الأفضل التسبيح أو القراءة، فالرواية ظاهرة في التخيير كما هو واضح، نعم الظاهر من اِلتزام الإمام بالقراءة هو أنَّها أفضل الخيارين.

وعليه يكون مقتضى الجمع بين صحيحة عبد الله بن سنان وبين مثل صحيحة معاوية بن عمَّار هو أنَّ وظيفة المأموم في الركعتين الأخيرتين هو التسبيح إلا في صلاتي الظهرين فإنَّ وظيفته التخيير كما هو مقتضى صحيحة عبد الله بن سنان يعني أنَّ هذه الصحيحة يقيَّد بها مثل صحيحة معاوية بن عمَّار. والنتيجة أنَّ التسبيح هي وظيفة المأموم في الأخيرتين إلا في الصلوات الإخفاتية فإنَّ وظيفته التخيير والقراءة أفضل بناءً على استظهار ذلك من التزام الإمام بالقراءة.

ما هو الأفضل للمنفرد:

وأمَّا المنفرد فيظهر من رواية جميل تعين القراءة في حقِّه قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عما يقرأ الإمام في الركعتين في آخر الصلاة؟ فقال بفاتحة الكتاب ولا يقرأ الذين خلفه ويقرأ الرجل فيهما إذا صلى وحده بفاتحة الكتاب"(13) إلا أنَّ مقتضى الجمع بينها وبين صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: لا تقرأنَّ في الركعتين الأخيرتين من الأربع الركعات المفروضات شيئاً إماماً كنتَ أو غير إمام قال: قلت: فما أقول فيهما؟ قال: إذا كنتَ إماما أو وحدك فقل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ثلاث مرات تكمله تسع تسبيحات ثم تكبر وتركع"(14) مقتضى الجمع هو التخيير وبه لا يكون ثمة ما يوجب البناء على أفضلية القراءة على التسبيح وكذلك العكس، ولكن هذا مبتنٍ على حجية رواية جميل فإنَّ في سندها إشكال من جهة علي بن السندي وبذلك يكون المتعيَّن هو العمل بصحيحة زرارة المقتضية لأفضلية التسبيح بعد الجمع بينها وبين صحيحة منصور بن حازم: "وإنْ كنتَ وحدَك فيسعُك فعلتَ أو لم تفعل" وصحيحة "فَإِذَا كُنْتَ وَحْدَكَ فَاقْرَأْ فِيهِمَا وإِنْ شِئْتَ فَسَبِّحْ" فمقتضى الجمع هو حمل صحيحة زرارة على أفضلية التسبيح ورفع اليد عن ظهورها في تعيُّن التسبيح.

والمتحصل مما ذكرناه أنَّ الظاهر هو أفضلية التسبيح مطلقاً للإمام والمنفرد، وأمَّا المأموم في الصلوات الجهريَّة فالمتعيَّن عليه هو التسبيح ولا أقلَّ من الاحتياط، وأمَّا في صلاتي الظهرين فهو مخيَّر ولا يبعد في حقه أفضلية القراءة.

والحمد لله ربِّ العالمين

الشيخ محمد صنقور

4 / جمادى الأولى / 1446ه

7 / نوفمبر / 2024م


1- الحدائق الناضرة -الشيخ يوسف البحراني- ج8 / ص388.

2- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج6 / ص109.

3- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج6 / ص122.

4- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج6 / ص124.

5- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج6 / ص125.

6- الحدائق الناضرة -الشيخ يوسف البحراني- ج8 / ص388.

7- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج6 / ص126.

8- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج6 / ص127.

9- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج6 / ص108.

10- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج6 / ص126.

11- المستند في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج14 / ص476.

12- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج6 / ص126.

13- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج6 / ص108.

14- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج6 / ص122.