موارد ثبوت الدعوى بشاهدٍ ويمين

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

هل تثبت الدعوى القضائيَّة بشاهدٍ واحد ويمينِ المدعي إذا لم يتهيأ للمدَّعي إقامة البيِّنة الكاملة؟

الجواب:

مستند ثبوت الدعاوى في الجملة بالشاهد واليمين:

الظاهر أنَّه لم يقع خلاف بين الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم (1) في ثبوت الدعوى القضائية -في الجملة- بشهادة شاهدٍ واحدٍ مع يمين المدَّعي إذا لم يتهيأ له إقامة البيِّنة الكاملة، ويدلُّ على ذلك العديد من الروايات المعتبرة الواردة عن أهل البيت (ع):

منها: صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللَّه عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام) قال: "كان رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم) يقضي بشاهدٍ واحد مع يمينِ صاحب الحقّ"(2).

ومنها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد إذا عُلم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس، فأمّا ما كان من حقوق اللَّه عزّ وجلّ أو رؤية الهلال فلا"(3).

فثبوت الدعوى القضائيَّة -في الجملة- بشهادةِ رجلٍ واحد ويمين المدَّعي ممَّا لا إشكال فيه ولا خلاف، نعم وقع الخلاف فيما يثبت بالتحديد من الدعاوى القضائية بشاهدٍ ويمين، فذهب جماعةٌ من الفقهاء بأنَّ ما يثبت بشاهد ويمين هو الدين خاصَّة، وذهب آخرون إلى أنَّه يثبت بالشاهد الواحد واليمين مطلقُ الدعاوى الماليَّة سواءً كانت متعلقة بالدين أو غيره كالوديعة والغصب والجناية المالية والوصية وعقود المعاوضة، ونُسب هذا القول للمشهور، وثمة قول ثالث وهو أنَّ ما يثبت بالشاهد الواحد ويمين المدَّعي هو مُطلق حقوق الناس الأعم من الماليَّة وغيرها مثل الطلاق والخلع والحضانة والنسب.

الاستدلال اختصاص ما يثبت بشاهدٍ ويمين بالدين:

ويُستدلُّ للقول الأول -وهو اختصاص ما يثبت بشاهد ويمين- استُدلَّ بعدد من الروايات المعتبرة:

منها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام) قال: كان رسول اللََّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) يجيز في الدين شهادة رجلٍ واحد ويمين صاحب الدين، ولم يجز في الهلال إلّا شاهدي عدل"(4)

ومنها: ومعتبرة حمّاد بن عثمان، قال: سمعتُ أبا عبد اللَّه (عليه السلام) يقول: "كان عليٌّ (عليه السلام) يُجيز في الدين شهادة رجلٍ ويمين المدّعى"(5).

فهذه الرواية والتي قبلها وإنْ كان كلٌّ منهما يدلُّ على ثبوت الدعوى في الدين بالشاهد الواحد ويمين المدَّعي ولكنهما لا تنفيان ثبوت الدعوى في غير الدين بالشاهد الواحد واليمين، نعم صريحُ الرواية الأولى هو عدم ثبوت رؤية الهلال بغير البيِّنة الكاملة. وهذا الذيل يصلحُ قرينة على أنَّه لا خصوصية للدين بالإضافة إلحقوق المالية وسائر حقوق الناس وإلا لم يكن معنى لنفي إجازة الحكم بشاهد ويمينٍ في الهلال خاصَّة فإنَّه لو كان الحكم بالشاهد واليمين مختصاً بالدين لكان مقتضى ذلك نفي الإجازة عن بقية الحقوق المالية وسائر حقوق الناس كما نفاها عن الهلال.

ومنها: موثقة أبي بصير، قال: سألتُ أبا عبد اللَّه (عليه السلام) عن الرجل يكون له عند الرجل الحقّ، وله شاهدٌ واحد، قال: فقال: "كان رسولُ اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) يقضي بشاهدٍ واحد ويمينِ صاحب الحقّ، وذلك في الدَّين"(6).

هذه الرواية لا تخلو من ظهور في الاختصاص، إذ لا موجب للتنويه في ذيل الرواية بقوله: "وذلك في الدين" لا موجب لذلك لولا إرادة الاحتراز ونفي ثبوت الدعوى بالشاهد واليمين بغير الدين.

ومنها: معتبرة قاسم بن سليمان، قال: سمعتُ أبا عبد اللَّه (عليه السلام) يقول: "قضى رسولُ اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) بشهادةِ رجلٍ مع يمينِ الطالب في الدين وحده"(7).

الاستدلال على ثبوت مطلق حقوق الناس بالشاهد واليمين:

وهذه الرواية أظهر في الاختصاص من الرواية التي سبقتها. فلو كنَّا وهذه الروايات لكان مقتضاها هو اختصاص ما يثبت بالشاهدِ الواحد واليمين بدعوى الدين، إما لظهور بعض الروايات في الاختصاص أو لا أقلَّ من أنَّ ذلك هو القدر الذي يصحَّ أنَّ نخرج به عمَّا دلَّ على أنَّ الدعاوى القضائية لا تثبتُ إلا بالبينة الكاملة أو الإقرار، إلا أنَّ ثمة رواياتٍ دلَّت على أنَّ ما يثبت بالشاهد الواحد واليمين أوسع من دعوى الدَّين وأنَّه يثبت بهما مطلقُ حقوق الناس.

فمن هذه الروايات صحيحة محمّد بن مسلم -المتقدِّمة- عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحدِ إذا عُلم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس، فأمّا ما كان من حقوق اللَّه عزّ وجلّ أو رؤية الهلال فلا"(8).

فهذه الرواية كما أفاد السيد الخوئي(9)- صريحةٌ في ثبوت مطلق حقوق الناس بالشاهد الواحد واليمين وبذلك يتعيَّن رفع اليد عما يُستظهر من الروايات السابقة في الاختصاص بالدَّين وتُحمل على أنَّ ما قضى به الرسول (ص) بشاهدٍ ويمين كان في الدين لا أنَّ القضاء بشاهدٍ ويمين يختصُّ بالدين.

ولعلَّ منشأ التنصيص على الدين -كما أفاد السيد الخوئي(10)- هو أنَّ العامَّة أو بعضهم زعم أنَّ القرآن المجيد نصَّ في خصوص الدَّين على الشاهدين أو الشاهد وامرأتين في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوْا إِذَا تَدَايَنْتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ .. وَاسْتَشْهِدُوا شَهيِدَيْنِ مِن رِجَالِكُمْ فَإِن لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى﴾(11) وعليه فلا تثبت الدعوى في الدَّين إلا بشهادة رجلينِ أو رجلٍ وامرأتين، فجاءت هذه الروايات لتؤكد أن الرسول (ص) والإمام عليَّاً(ع) قضى كلٌّ منهما بشاهدٍ ويمين في الدَّين، وذلك لأنَّ القرآن لم يكن بصدد حصر ما يثبت في الدين بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين وإنَّما كان بصدد بيان أنَّ الدَّين يثبت بذلك ولكنَّه لم يكن ينفي أنَّه يثبت بغيره، ولذلك قضى الرسول (ص) في الدَّين بغير الشاهدين، فهو قد قضى بشاهدٍ ويمين، فلعلَّ الروايات التي تصدَّت لبيان أنَّ الرسول (ص) والإمام عليَّاً (ع) قضيا في الدين بشاهدٍ ويمين كان لغرض تفنيد ما ادَّعاه العامة من عدم صحَّة الحكم في الدين بغير الشاهدين.

ولعلَّ مما يؤيد ذلك صحيحة عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ: دَخَلَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ وسَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ ع فَسَأَلَاه عَنْ شَاهِدٍ ويَمِينٍ فَقَالَ قَضَى بِه رَسُولُ اللَّه ص وقَضَى بِه عَلِيٌّ ع عِنْدَكُمْ بِالْكُوفَةِ فَقَالا هَذَا خِلَافُ الْقُرْآنِ فَقَالَ: وأَيْنَ وَجَدْتُمُوه خِلَافَ الْقُرْآنِ فَقَالا إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى يَقُولُ: ﴿وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ فَقَالَ لَهُمَا أَبُو جَعْفَرٍ (ع) فَقَوْلُه: ﴿وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ هُوَ أَنْ لَا تَقْبَلُوا شَهَادَةَ وَاحِدٍ ويَمِيناً ثُمَّ قَالَ إِنَّ عَلِيّاً ع كَانَ قَاعِداً فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ .."(12).

فمفاد الرواية أنَّ القرآن لم ينفِ صحَّة الحكم بشاهد ويمين وإنما كانت الآيات بصدد أن الحكم في الدين وغيره يثبت بشاهدين ولم تكن بصدد نفي ثبوته بشيء آخر، وأكَّد (ع) ذلك بأنَّ الرسول (ص) والأمام عليَّاً (ع) قضيا بشاهدٍ ويمين ومقتضاه أن الآيات لا تنفي صحَّة الحكم بغير الشاهدين.

وكيف كان فصحيحة محمد بن مسلم صريحةٌ في ثبوت مطلق حقوق الناس بشاهدٍ ويمين، ويؤكد ذلك مضافاً إلى التصريح بعنوان حقوق الناس الذي لا يختصُّ جزما بالديون، يؤكد ذلك المقابلة في الرواية بين حقوق الناس وحقوق الله تعالى وأنَّ الشاهد واليمين يثبت بهما حقوق الناس ولا يثبت بهما حقوق الله تعالى، فذلك يؤكِّد أنَّ الرواية لم تكن بصدد ما يثبت بالشاهد واليمين في الجملة بل هي بصدد تحديد ما يثبت من الدعاوي بالشاهد الواحد واليمين وأنَّه بهما مطلق حقوق الناس.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

17 / ذو القعدة / 1445ه

26 / مايو / 2024م


1- مستند الشيعة -النراقي-ج17 / ص265، جواهر الكلام -النجفي-ج40/ 268.

2- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص267.

3- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص268.

4-وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص264.

5- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص265.

6- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص265.

7- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص268.

8- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص268.

9- مباني تكملة المنهاج -السيد الخوئي- ج41 / ص42

10- القضاء والشهادات -السيد الخوئي- ج1 / ص705.

11- سورة البقرة / 282.

12- الكافي -الكليني- ج7 / ص385، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص266.