القراءة من المصحف في صلاة الفريضة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

هل يصحُّ للمصلِّي أنْ يقرأ اختياراً من المصحف الشريف رغم حفظه عن ظهر قلب للمقدار المُجزي من القراءة؟

 

الجواب:

لم يختلف الفقهاء في صحَّة قراءة المصلِّي من المصحف الشريف في فرض العجز عن القراءة عن ظهر قلب وعدم وجود مَن يأتمُّ به، نعم وقع الخلاف بينهم في صحَّة قراءة المصلِّي في المصحف اختياراً فصحَّحه جمعٌ منهم ومنع منه آخرون(1).

 

مستند القول بالصحَّة في فرض الاختيار:

واستدلًّ القائلون بصحَّةِ القراءة من المصحف اختياراً بأنَّ القراءة من المصحف مصداقٌ حقيقي للقراءة المأمور بها، فمن قرأ من المصحف يُعدُّ عرفاً ممتثلاً للأمر بالقراءة في الصلاة تماماً كمَن قرأ عن ظهر قلب.

 

واستُدلَّ كذلك بمعتبرة الحسن بن زياد الصيقل قال: قلتُ لأبي عبد الله (ع): ما تقولُ في الرجل يُصلِّي وهو ينظرُ في المصحف يقرأُ فيه يضعُ السراج قريباً منه؟ فقال (ع): لا بأس بذلك"(2) فالإمام (ع) لم يستفصِل، ونفي البأس عن قراءة المصلِّي في المصحف مطلقاً وهو ما يقتضي الصحَّة حتى في فرض الاختيار.

 

الجواب عن أدلَّة المانعين:

إلا أنَّه ورد في مقابل ذلك رواية عن عبد الله بن جعفر الحميري في قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن عليِّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (ع) قال سألتُه عن الرجل والمرأة يضعُ المصحفَ أمامه ينظرُ فيه ويقرأُ ويُصلِّي قال (ع): "لا يعتدُّ بتلك الصلاة"(3).

 

إلا أنَّ هذه الرواية نظراً لعدم تماميَّة سندها لا تصلح لتقييد إطلاقات الأمر بالقراءة كما لا تصلح لمعارضة معتبرة الصيقل، نعم بناءً على تجاوز السند فإنَّ التعارض بينها وبين معتبرة الصيقل مستحكم، لأنَّ مفاد المعتبرة هو الصحة مطلقاً ومفاد رواية قرب الإسناد هو الفساد ولا يمكن الجمع بين هذين المدلولين، فما أفاده بعض الأعلام - من الجمع بينهما بحمل المعتبرة على الصحَّة في فرض العجز عن القراءة حفظاً، وحمل الفساد على فرض الاختيار- ليس من الجمع العرفي وليس في البين ما يشهد لإرادته، وكذلك لا يصحُّ الجمع بين الروايتين بحمل رواية قرب الإسناد على إرادة الكراهة، وذلك لظهورها الشديد في إفادة الفساد فإنَّ قوله: "لا يعتدُّ بتلك الصلاة" معناه أنَّها بحكم اللاغية فهو كمَن لم يصلِّ، وهكذا فإنَّ الجمع بين الروايتين بحمل المعتبرة على النافلة وحمل رواية قرب الإسناد على الفريضة لا يعدو الجمع التبرُّعي.

 

فالمتعيَّن هو البناء على صحَّة قراءة المصلِّي في المصحف اختياراً استناداً إلى معتبرة الصيقل ومع البناء على عدم تماميَّة سندها فيكفي للبناء على الصحَّة في فرض الاختيار إطلاقات الأمر بالقراءة، إذ لا إشكال في كون القراءة من المصحف مصداقاً حقيقياً للقراءة المأمور بها فكما يُعدُّ القارئ عن ظهر قلب ممتثلاً عرفاً للأمر بالقراءة في الصلاة كذلك يُعدُّ القارئ من المصحف ممتثلاً عرفاً للأمر بالقراءة في الصلاة دون أدنى فرقٍ بين الفرضين.

 

فدعوى انصراف الأمر بالقراءة إلى القراءة عن ظهر قلب لا تصح، فانسباق الذهن إلى هذا النحو من القراءة إنَّما نشأ عن تعارف القراءة بهذا النحو، وهذا المستوى من الانسباق الذهني -مضافاً إلى عدم استقراره بمجرَّد التأمل السريع- ليس من الانصراف المانع من استظهار الاطلاق إذ هو من الانصراف الناشئ عن غلبة الوجود.

 

وأمَّا استدلال المانعين بالتأسِّي بالرسول الكريم (ص) والأئمة (ع) حيث لم يكونوا يقرأون في الصلاة إلا عن ظهر قلب فلا يتم، إذ أنَّ الفعل وحده لا يدلُّ على الوجوب وأقصى ما يدلُّ عليه هو المشروعيَّة، ويمكن التنزُّل والبناء -في مثل هذا الفرض- على دلالته على الأفضليَّة.

 

هذا وقد استدلَّ المانعون على عدم صحَّة القراءة من المصحف أثناء الصلاة اختياراً بما مؤدَّاه أنَّ القراءة من المصحف مكروهٌ، والمكروه لا يكون واجباً، إذ أنَّ الأحكام متضادَّة فيما بينها. فلو تمَّ البناء على صحَّة القراءة من المصحف اختياراً لكانت واجبة وهي في ذات الوقت مكروهة فيكون شيءٌ واحد مورداً لحكمين مختلفين.

 

وأجاب السيِّد الخوئي (رحمه الله) عن ذلك بما حاصله(4):

أنَّ المكروه ليس هو القراءة وإنَّما هو النظر في المصحف باعتباره شاغلاً، ومن الواضح أنَّ النظر ليس قراءةً، إذ القراءة هي التلاوة، فالنظر ليس مقوِّماً للقراءة ولا هو جزء منها وإنَّما هو فعل آخر مصاحب للقراءة، فالمحكوم إذن بالكراهة مغايرٌ لما هو المحكوم بالوجوب، فلم يقع الحكمان على موردٍ واحد. هذا أولاً.

 

وثانياً: لو تمَّ البناء على أنَّ القراءة في المصحف هي المكروهة فإنَّ ذلك لا يكون من اجتماع حكمين متضادَّين على متعلَّقٍ واحد، إذ أنَّ متعلَّق الوجوب إنَّما هو طبيعي القراءة القابل للانطباق على أفرادٍ مختلفة، والأفراد التي هي مصاديق لطبيعي القراءة ليست هي الواجبة، غايته أنَّ جعل الوجوب على الطبيعي يُصحِّح تطبيقه على أيِّ فرد من أفراده بما في ذلك الفرد المكروه، إذ أنَّ الفرد المكروه مصداقٌ للطبيعي فلا مانع من تطبيق الطبيعي -المأمور به- عليه بعد افتراض أنَّه من مصاديقه وأنَّه ليس محظوراً، فهو ليس كالفرد المحرَّم، إذ أنَّ الفرد المحرَّم وإنْ كان من أفراد الطبيعي إلا أنَّ تحريمَه يقتضي استظهار أنَّ الشارع لم يُرخِّص في تطبيق المأمور به عليه، وهذا بخلاف المكروه الذي هو من أفراد الطبيعي المأمور به فإنَّ كراهته لا تمنع من تطبيق المأمور به عليه، إذ أنَّ المكروه مرخَّصٌ فيه وإنْ كان تطبيق المأمور به عليه أقل ثواباً من تطبيقِه على الفرد غير المكروه، فالصلاة في الحمام -مثلاً- أو في معاطن الإبل وإن كانت مكروهة إلا أنَّه لا مانع مِن تطبيق الأمر بطبيعي الصلاة على هذا الفرد من الصلاة أو ذاك، وهذا بخلاف الصلاة في الأرض المغصوبة فهي وإنْ كانت من أفراد طبيعي الصلاة إلا أنَّه حيث كانت محرَّمة لذلك يكون المستظهَر هو أنَّ الشارع لم يُرخِّص في جعلها مصداقاً لطبيعي الصلاة المأمور به.

 

وبتعبيرٍ آخر: إنَّ مقتضى إطلاق الأمر بطبيعيِّ الصلاة هو الترخيص في امتثالها ضمن أيِّ فردٍ من أفرادها بما في ذلك الفرد المكروه، إذ أنَّ افتراض كراهته وعدم حرمته يُساوق الترخيص باختياره لامتثال الأمر بالطبيعي، نعم لو قام دليلٌ على حرمة فردٍ من أفراد طبيعي الصلاة لكان مقتضاه عدم صحَّة تطبيق الأمر بالطبيعي عليه رغم أنَّه من أفراده، ومنشأ ذلك هو أنَّ تحريم ذلك الفرد يُوجب استظهار عدم ترخيص الشارع في تطبيق طبيعي المأمور به على ذلك الفرد أي أنَّ تحريم ذلك الفرد معناه تقييد الترخيص بتطبيق امتثال الأمر بطبيعي الصلاة على أفراده بغير الفرد المحرَّم.

 

والمتحصَّل من مجموع ما ذكرناه أنَّه لا مانع من القراءة من المصحف الشريف في صلاة الفريضة كما لا مانع منه في صلاة النافلة وإنْ كان الأحوط القراءة في الفريضة عن ظهر قلب.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

4 / ذو القعدة / 1443ه

4 / يونيو / 2022م

------------------------------- 

1- الحدائق الناضرة -الشيخ يوسف البحراني- ج8 / ص109، مستند الشيعة - النراقي- ج5 / ص81.

2- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج2/ ص294، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج6 / ص107.

3- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج6 / ص107.

4- المستند في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج14 / ص406، 407.