قولُ عليٍّ (ع) لمالك: كان لي كما كنتُ لرسول الله (ص)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

السلام عليكم شيخنا

هل ورد عن الإمام علي (عليه السلام) أنَّه قال: كان لي مالك كما كنتُ لرسول الله (ص)؟ وإذا كان قد ورد ذلك فما هو وجه المقارنة؟

 

الجواب:

نعم أورد ذلك العلامة الحلِّي في خلاصة الأقوال في ترجمة مالك الأشتر قال: مالك الأشتر (قدس الله روحه ورضي الله عنه)، جليل القدر، عظيم المنزلة، كان اختصاصه بعلي (عليه السلام) أظهر من أن يخفى، وتأسَّف أميرُ المؤمنين (عليه السلام) بموته، وقال: "لقد كان لي كما كنتُ لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله)"([1]).

 

ونقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة عن نصر بن مزاحم المنقري (المتوفى سنة 212) قال: قال نصر: وروى الشعبي عن صعصعة قال: الأشتر لي كما كنتُ لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله)"([2]).

 

وقال كذلك في موضعٍ آخر من شرحه: هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن ربيعة بن خزيمة بن سعد بن مالك ابن النخع بن عمرو بن علة بن خالد بن مالك بن أدد. وكان فارسًا شجاعا رئيسًا من أكابر الشيعة وعظمائها، شديد التحقق بولاء أمير المؤمنين (عليه السلام) ونصره، وقال فيه بعد موته: "رحم الله مالكًا، فلقد كان لي كما كنتُ لرسول الله صلَّى الله عليه وآله"([3]).

 

المُستظهر من معنى الرواية والقرينة على ذلك:

وأمَّا وجهُ المقارنة والمقايسة -بناءً على صحَّة الرواية- فهو الاعتماد في المهمَّات -ظاهرًا- فمعنى قوله (ع) "كان لي كما كنتُ لرسول الله (ص)" هو أنَّ محلَّه مني محلَّ الوزير المعتمَد في إنجاز المهام الجسام كما كان محلِّي من رسول الله (ص) محل الوزير المعتمد، فكنتُ أُعوِّل عليه وأثق بكفاءته كما كان رسول الله (ص) يُعوِّل عليَّ ويثقُ بكفاءتي. فكان موضعه من نفسي كما كان موضعي من نفس رسول الله (ص).

 

والظاهر من ملاحظة السياق التأريخي وطبيعة العلاقة بين أمير المؤمنين (ع) ومالك الأشتر هو أنَّ مقصود الإمام (ع) من ذلك هو التعبير عن موقع مالك الأشتر من الإمام (ع) فيما يتصل بإدارة الحرب وشؤون الحكم، فكان منه في ذلك كما كان هو لرسول الله (ص) وليس مقصود الإمام (ع) من قوله: "كان لي كما كنتُ لرسول الله (ص)" تنظير علاقته بمالك بموضعه من رسول الله (ص) من جهة الإمامة الإلهيَّة، إذ أنَّ موضع عليٍّ (ع) من رسول (ص) من هذه الجهة كان موضع الوصيِّ والخليفة، وموضع الوارث لعلمه، والأمين على رسالته، والقائم مقامَه في مطلق المهام والوظائف التي كانت مناطة بالرسول (ص) من عند الله تعالى.

 

ولم تكن لمالكٍ (رحمه الله) هذه المنزلة من عليٍّ (ع) فلم يكن وصيَّه وخليفته ولا كان وراثًا لعلمه بل لم يكن له تميُّزٌ على أقرانه في العلم والمعرفة، نعم كان متميزًا عليهم في الشجاعة والقوَّة والصلابة والبصيرة وحسن الإدارة، فكان لذلك هو الوزير الأول لعليٍّ (ع) في إدارة الحرب وشؤون الحكم.

 

ويؤكِّد ذلك ما ورد من إطراء أمير المؤمنين (ع) لمالك الأشتر في العديد من المواضع:

 

منها: ما ورد في كتابٍ له (ع) إلى أميرين من أمراء جيشه كما في نهج البلاغة قال: "وقَدْ أَمَّرْتُ عَلَيْكُمَا وعَلَى مَنْ فِي حَيِّزِكُمَا مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الأَشْتَرَ، فَاسْمَعَا لَه وأَطِيعَا واجْعَلَاه دِرْعًا ومِجَنًّا، فَإِنَّه مِمَّنْ لَا يُخَافُ وَهْنُه ولَا سَقْطَتُه، ولَا بُطْؤُه عَمَّا الإِسْرَاعُ إِلَيْه أَحْزَمُ، ولَا إِسْرَاعُه إلى مَا الْبُطْءُ عَنْه أَمْثَلُ"([4]).

 

أقول: محور الثناء على مالك هي شجاعته وقوته وثباته ومبادرته للعدو، كما هو مفاد قوله (ع): "فَإِنَّه مِمَّنْ لَا يُخَافُ وَهْنُه ولَا سَقْطَتُه، ولَا بُطْؤُه" وكذلك أثنى على بصيرته وحُسن تدبيره كما هو مفاد قوله (ع): "ولَا بُطْؤُه عَمَّا الإِسْرَاعُ إِلَيْه أَحْزَمُ، ولَا إِسْرَاعُه إلى مَا الْبُطْءُ عَنْه أَمْثَلُ" فهو يُبادر حين يكون البدار أوفق للحزم وحُسْنِ الرأي، ويتريَّث حين يكون التريُّث أوفق بالمصلحة والحيطة.

 

ومنها: ما ورد في كتابٍ له (ع) إلى أهل مصر لما ولَّى عليهم الأشتر كما في نهج البلاغة قال: "مِنْ عَبْدِ الله عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.. أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ الله لَا يَنَامُ أَيَّامَ الْخَوْفِ، ولَا يَنْكُلُ عَنِ الأَعْدَاءِ سَاعَاتِ الرَّوْعِ، أَشَدَّ عَلَى الْفُجَّارِ مِنْ حَرِيقِ النَّارِ، وهُوَ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ أَخُو مَذْحِجٍ، فَاسْمَعُوا لَه وأَطِيعُوا أَمْرَه فِيمَا طَابَقَ الْحَقَّ، فَإِنَّه سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ الله، لَا كَلِيلُ الظُّبَةِ ولَا نَابِي الضَّرِيبَةِ، فَإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تَنْفِرُوا فَانْفِرُوا، وإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تُقِيمُوا فَأَقِيمُوا، فَإِنَّه لَا يُقْدِمُ ولَا يُحْجِمُ، ولَا يُؤَخِّرُ ولَا يُقَدِّمُ إِلَّا عَنْ أَمْرِي، وقَدْ آثَرْتُكُمْ بِه عَلَى نَفْسِي لِنَصِيحَتِه لَكُمْ، وشِدَّةِ شَكِيمَتِه عَلَى عَدُوِّكُمْ"([5]).

 

أقول: ومحور هذا النصِّ أيضًا هو الثناء على شجاعة الأشتر وشدَّة بأسه على الأعداء حتى وصفه بأنَّه أشدُّ على الأعداء من حريق النار، وأثنى كذلك على ثباته وصلابته كما في قوله: "ولَا يَنْكُلُ عَنِ الأَعْدَاءِ سَاعَاتِ الرَّوْعِ" وأثنى على جدِّيته ويقظته كما في قوله (ع): "لَا يَنَامُ أَيَّامَ الْخَوْفِ" وأثنى على إخلاصه وصدقه وعظيم مناصحته بقوله (ع): وقَدْ آثَرْتُكُمْ بِه عَلَى نَفْسِي لِنَصِيحَتِه لَكُمْ" وأثنى على انقياده له بقوله (ع): "فَإِنَّه لَا يُقْدِمُ ولَا يُحْجِمُ، ولَا يُؤَخِّرُ ولَا يُقَدِّمُ إِلَّا عَنْ أَمْرِي".

 

ومنها: ما أورده الشيخ المفيد بسنده عن هشام بن محمد قال: "لما ورد الخبر على أمير المؤمنين (عليه السلام) بمقتل محمد بن أبي بكر رضي الله عنه كتب إلى مالك بن الحارث الأشتر رحمه الله وكان مقيما بنصيبين:

 

"أمَّا بعد فإنَّك ممَّن أستظهرُ به على إقامة الدين، وأقمعُ به نخوة الأثيم، وأسدُّ به الثغر المخوف. وقد كنتُ ولَّيتُ محمد بن أبي بكر (رحمه الله) مصر، فخرج عليه خوارج، وكان حدِثًا لا علم له بالحروب، فاستُشهد (رحمه الله) فاقدِمْ عليَّ لننظر في أمر مصر، واستخلِفْ على عملك أهلَ الثقة والنصيحة من أصحابك". فاستخلفَ مالكٌ (رضي الله عنه) على عمله شبيب بن عامر الأزدي، وأقبل حتى ورد على أمير المؤمنين (عليه السلام) فحدَّثه حديثَ مصر، وأخبره عن أهلِها، وقال له: "ليس لهذا الوجه غيرك، فاخرج فإنِّي إنْ لم أُوصك اكتفيتُ برأيك، واستعِن بالله على ما أهمَّك، واخلط الشدَّة باللين، وارفق ما كان الرفق أبلغ، واعتزم على الشدَّة متى لم تُغنِ عنك إلا الشدَّة"([6]).

 

أقول: هذا النصُّ يكشف عن مقدار ما يحظى به مالك الأشتر في نفس عليٍّ (ع) من الوثوق بكفاءته في إنجاز المهام المستصعبة كما يظهر ذلك من قوله (ع): فإنَّك ممَّن استظهرُ به على إقامة الدين، وأقمعُ به نخوة الأثيم، وأسدُّ به الثغر المخوف" كما يظهر من النصِّ مقدار ثقة الإمام (ع) بحسن رأي مالك في تدبير الأمور كما يتضح ذلك من قوله (ع): "فإنِّي إنْ لم أُوصك اكتفيتُ برأيك" ثم أوصاه بالرفق في مواضع الرفق وبالشدَّة في مواطن الشدَّة دون أن يُبيِّن له مواطن الرفق ومواطن الشدَّة وفي ذلك إشارة إلى اطمئنانه بكفاءة مالك واعتماده على تشخيصه.

 

ومنها: ما أورده الشيخ المفيد في الإرشاد وغيره قال: قال أمير المؤمنين (ع) في حقِّ مالك الأشتر: ".. وَلَيتَ فيكم مثله اثنين، بل لَيت فيكم مثله واحدا، يرى في عدوِّي مثل رأيه، إذًا لخفَّت مؤنتكم عليَّ، ورجوتُ أن يستقيم لي بعض أوَدكم"([7]).

 

أقول: وهذا النصٌّ هو مِن أبلغ النصوص دلالةً على تميُّز الأشتر وتقدُّمه على سائر أقرانه من أهل العراق، فليس فيهم مَن هو مثله في حُسن رأيه وتدبيره وصدقه في مقارعة العدو، فالثناء على مالك كان من هذه الجهة.

 

ومنها: ما ورد أنَّ أمير المؤمنين (ع) قَالَ وقَدْ جَاءَه نَعْيُ الأَشْتَرِ (رَحِمَه اللَّه): "مَالِكٌ ومَا مَالِكٌ، والله لَوْ كَانَ جَبَلًا لَكَانَ فِنْدًا، ولَوْ كَانَ حَجَرًا لَكَانَ صَلْدًا، لَا يَرْتَقِيه الْحَافِرُ ولَا يُوفِي عَلَيْه الطَّائِرُ قال الرضي: والفند المنفرد من الجبال"([8]).

 

وقال الكشي: ذُكر أنَّه لمَّا نُعي الأشتر مالك بن الحارث النخعي إلى أمير المؤمنين عليه السلام تأوَّه حزنًا، وقال: رحم الله مالكا، وما مالك عزَّ عليَّ به هالكا، لو كان صخرًا لكان صلدا، ولو كان حبلا لكان قيدًا. وكأنَّه قُدَّ منِّي قدا"([9]).

 

وروى الشيخ المفيد -كما في الاختصاص- بإسناده إلى عوانة قال: "لمَّا جاء هلاك الأشتر إلى عليِّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، صعد المنبر وخطب الناس، ثم قال: ألا إنَّ مالك بن الحارث قد قضى نحبه، وأوفى بعهده، ولقيَ ربَّه، فرحم الله مالكًا، لو كان جبلًا لكان فندا، ولو كان حجرًا لكان صلدا، لله مالك وما مالك؟ وهل قامت النساء عن مثل مالك؟وهل موجودٌ كمالك"([10]).

 

وروى إبراهيم بن محمد الثقفي عن فضيل بن خديج عن أشياخ النخع قالوا: دخلنا على عليٍّ (عليه السلام) حين بلغه موتُ الأشتر، فجعل يتلهَّف ويتأسَّف عليه، ويقول: "لله درُّ مالك، وما مالك لو كان جبلًا لكان فِندًا، ولو كان حجرًا لكان صلدا، أما والله ليهدَّنَّ موتُك عالَمًا وليُفرحنَّ عالَمًا، على مثل مالك فلتبكِ البواكي، وهل موجود كمالك"([11]).

 

أقول: فمحورُ ما أثنى به الإمام (ع) على مالك (رحمه الله) في مقام تأبينه هو أنَّه كان منقطع النظير في صلابته فهو كالجبل الأشم يشقُّ على الحافر أنْ يرتقيه بل لا يُتاح للطائر أنْ يبلغ بجناحيه ذروته، وقد عبَّر الإمام (ع) عن موضع مالك من نفسه -في رواية الكشي- بقوله: "وكأنَّه قُدَّ منِّي قدَّا" أي كأنَّ بضعةً من عليٍّ (ع) قُطعت بموته، وفي ذلك تعبيرٌ عن شدَّة حبِّه لمالك (رحمه الله) أو أنَّ عليًّا (ع) أراد من ذلك أنَّه يُشبهه في صلابته حتى كانَّه جزءٌ مُقتطع منه. ثم أفاد الإمام (ع) -كما في رواية الثقفي-: "أما والله ليهدَّنَّ موتُك عالَمًا وليُفرحنَّ عالَمًا" وفي ذلك تعبيرٌ عن أنَّ مالكًا كان يمثل الركن الأعظم لجيش الإمام (ع) وأنَّ لفقده تبعات تعدو بالضرر على ثبات الجيش وتلاحم صفوفه.

 

وخلاصة القول: إنَّ ملاحظة طبيعة العلاقة بين أمير المؤمنين (ع) وبين مالك الأشتر وملاحظة مدلول الكلمات التي أُثرت عن أمير المؤمنين (ع) في مقام الثناء على مالك يكشف عن مقصوده من قوله (ع): "كان لي كما كنتُ لرسول الله (ص)" وأنَّه أراد من ذلك أنَّ مالكًا كان معتمدَه في انجاز المهمات المستصعبة كما كان هو معتمد الرسول (ص) في ذلك، فكان موضع مالكٍ منه موضع الوزير الأول كما كان موضعُ عليٍّ (ع) موضع الوزير الأول من رسول الله (ص).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

11 / ربيع الآخِر / 1443هـ

17 / نوفمبر / 2021م


[1]- خلاصة الأقوال- العلامة الحلِّي- ص277.

[2]- شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج2 / ص214.

[3]- شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج15 / ص98.

[4]- نهج البلاغة -تحقيق صبحي الصالح- ص372.

[5]- نهج البلاغة -تحقيق صبحي الصالح- ص411، الغارات -الثقفي- ج1 / ص261.

[6]- الأمالي -الشيخ المفيد- ص81، الغارات -الثقفي- ج1 / ص259.

[7]- الإرشاد -المفيد- ج1 / ص269، تاريخ الطبري- الطبري- ج4/ 43، وقعة صفين -المنقري- ص521.

[8]- نهج البلاغة -تحقيق صبحي الصالح- ص554.

[9]- اختيار معرفة الرجال -الشيخ الطوسي- ج1 / ص283.

[10]- الاختصاص -المفيد- ص81.

[11]- الغارات -إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي- ج1 / ص265.