حكم السمك الذي يموتُ في الشبكة أو الحظيرة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ما حكمُ السمك الذي يموتُ في الشبكة أو الحظيرة؟

الجواب :

وردت مجموعة من الروايات ظاهرة في الحليَّة وفيها ما هو معتبرٌ سنداً:

فقد ورد في صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (ع) قال سألتُه عن الحظيرة من القصب تُجعل في الماء يدخلُ فيها الحيتان فيموتُ بعضها فيها، قال (ع): "لا بأس به، إنَّ تلك الحظيرة إنَّما جُعلت ليُصاد بها".(1)

وورد أيضاً في صحيحة محمد مسلم عن أبي جعفر (ع) في الرجل ينصب شبكةً في الماء ثم يرجع إلى بيته ويتركُها منصوبةً، ويأتيها بعد ذلك وقد وقع فيها سمك فمِتنَ، فقال (ع) "ما عملتْه يدُه فلا بأس بأكل ما وقع فيها".(2)

وكذلك ورد في صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) الحظيرة من قصب تُجعل للحيتان في الماء فتدخلها الحيتان فتموتُ بعضُها فيها قال (ع): "لا بأس"(3).

إلا أنَّه في مقابل هذه الروايات وردت روايةٌ ظاهرها الحرمة وهي صحيحة عبد المؤمن الأنصاري قال: أمرتُ رجلاً أنْ يسأل الإمام أبا عبد الله (ع) عن رجلٍ صاد سمكاً وهنَّ أحياء ثم أخرجهن بعد ما مات بعضُهن؟ فقال (ع): "ما مات فلا تأكلْه فإنَّه مات فيما فيه حياته"(4).

فالرواية ظاهرة في أنَّ الصيد كان بواسطة المصيدة وإلا فلا معنى لأن يصيدهن أحياء ثم يخرجهن وقد مات بعضهن.

وعليه فالرواية معارِضة للروايات الظاهرة في الحليَّة، ولأنَّ التعارض بين الطائفتين مستحكِم فلا بدَّ من معالجته وفقاً لمرجِّحات باب التعارض.

هذا وقد رجَّح بعضُ الفقهاء صحيحة عبد المؤمن نظراً لموافقتها لفتوى المشهور إلا أنَّ الصحيح هو عدم وصول النوبة لمرجِّحات باب التعارض، وذلك لأنَّ صحيحة عبد المؤمن غيرُ معتبرة، فهي وإنْ كانت صحيحة إلى عبد المؤمن إلا أنَّها غير ظاهرة في تلقِّيه قول الإمام(ع) مباشرة، فهو قد أمر رجلاً أنْ يسأل الإمام (ع) فلعلَّه كان قد أمره في مجلسٍ غير المجلس الذي سأل فيه الرجلُ الإمام (ع).

ولأنَّ هذا الرجل مجهولٌ عندنا، فالرواية تكون ضعيفة بسببه، إلا أنْ يُقال أنَّ الأمر لا يخلو عن أحد احتمالين فإمَّا أنْ يكون عبد المؤمن قد أمر الرجل بأنْ يسأل الإمام (ع) في محضره وحينئذٍ ينتفي الإشكال لأنَّ عبد المؤمن بناءً على هذا الاحتمال يكون قد سمع جواب الإمام(ع) مباشرة، فهو ينقل ما كان قد سمعه من الإمام (ع).

والاحتمال الثاني هو أنَّ عبد المؤمن لم يكن حاضراً في مجلس الجواب واعتمد في نقله -كلام الإمام (ع)- على الرجل الذي أمره بسؤال الإمام (ع) وهذا يقتضي وثوقه بصدق الرجل وإلا لما أمره بسؤال الإمام (ع) واعتمد عليه في نقل كلام الإمام(ع) للآخرين.

فلو لم يكن الراوي وهو عبد المؤمن واثقاً بصدق الرجل لما بعثه بسؤاله إلى الإمام (ع) ولكان مقتضى تحرُّزه عن ايقاع الآخرين في توهُّم قطعه بصدور الجواب من الإمام عدم التعبير بقال الإمام (ع).

وبذلك يثبت انتفاء الإشكال السندي عن صحيحة عبد المؤمن فتكون حينئذ ٍصالحة لمعارضة الروايات الظاهرة في الحليَّة ولا تكون معارضتها لها من قبيل معارضة الحجَّة باللاحجَّة.

إلا أنَّ الظاهر هو عدم تمامية هذا الكلام فإنَّه لو كان الاحتمال الثاني هو المتعيِّن فإنَّه لا يعبِّر عن الاطمئنان بوثاقة الرجل، وذلك لاحتمال أنَّ الأمر بالسؤال نشأ عن كونه مورداً لحاجة الرجل وأنَّ الوثوق بما نقله الرجل له من جواب الإمام (ع) ناشئاً عن استبعاده لكذب الرجل نظراً لانتفاء دواعي الكذب بنظره أو كان لقرائن أخرى رأى أنَّها موجبة للاطمئنان بصدور ما نقله الرجل عن الإمام (ع).

وبتعبيرٍ آخر: يمكن أن يكون وثوق الراوي أعني عبد المؤمن لما نقله الرجل نشأ عن اجتهادٍ وحدس وهو غير حجَّة علينا، فلم يبق لإثبات اعتمادها شرعاً إلا دعوى انجبارها بعمل المشهور.

وذلك لو تمَّ كبروياً فإنَّه لا يتم في المقام إذ أنَّ جابرية الشهرة لضعف السند لا تكون إلا حينما يثبت الاشتهار بالعمل بين القدماء، وهو غير ثابت، ولا يبعد ثبوت الخلاف لذلك، حيث لم يُفتِ بالحرمة صراحةً من القدماء -كما قيل- إلا الشيخ وابن ادريس الحلِّي وابن حمزة رحمهم الله تعالى.

نعم الشهرة محرزة عند المتأخرين إلا أنَّها غيرُ نافعة لجبر الضعف السندي على أنَّ الإفتاء بالحرمة لا يُعبِّر عن الاعتماد على الرواية فلعلَّ منشأه هو الإعراض عن روايات الحليَّة والاعتماد في الافتاء بالحرمة على عمومات حرمة السمك الذي يموت في الماء.

وهو دليلٌ آخر لدعوى الحرمة إلا أنَّه غير تام، وذلك لعدم ثبوت إعراض القدماء عن روايات الحليَّة بل إنَّ ذلك غير ثابتٍ عن المتأخرين، نظراً لاحتمال أنَّ منشأ عدم العمل بروايات الحليَّة هو استحكام التعارض بنظرهم بين رواية عبد المؤمن وروايات الحليَّة وهو ما أدَّى لترجيح رواية عبد المؤمن لأنَّها مثلا موافقة لعمومات حرمة السمك الذي يموت في الماء، كما يُحتمل بل إنَّ ذلك ظاهر كلمات بعض المتأخِّرين -كما في الجواهر- التشكيك في ظهور الروايات المقابلة لرواية عَبد المؤمن من حيث احتمال أنَّ موت السمك وقع خارج الماء أو احتمال أنَّ موردها هو الشك في الموت خارج الماء أو داخله فيكون مفاد الروايات مطابقاً لمقتضى الأصل، وهو بقاء السمك حيَّاً إلى ما بعد اخراجه من الماء.

وبذلك لا يكون منشأ عدم العمل بالروايات الظاهرة في الحليَّة هو الإعراض.

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّ رواية عبد المؤمن ساقطة عن الاعتبار والحجِّيِّة فيتعيَّن العمل بالروايات الظاهرة في حليَّة السمك الذي يموت في الشبكة، وأمَّا العمومات القاضية بحرمة ما يموت من السمك في الماء، فمقتضى صناعة حمل المطلق على المقيَّد هو تقييد تلك العمومات بالروايات الدالَّة على حليَّة السمك الذي يموت في الشبكة، نظراً لكونها أخصَّ مطلقاً من عمومات حرمة السمك الذي يموت في الماء.

والحمد لله رب العالمين

الشّيخ محمَّد صنقور

26 شوال 1426 هـ


1- الكافي -الشيخ الكليني- ج6 ص217.

2- من لا يحضره الفقيه -الشيخ الصدوق- ج3 ص325.

3- من لا يحضره الفقيه -الشيخ الصدوق- ج3 ص324.

4- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 24 ص84.